رسالة جامعية في مواجهة التشيع (2)

العلامة السيد سامي البدري
العلامة السيد سامي البدري

نشر هذا المقال في مجله رسالة الثقلين ـ العدد 8 ـ السنة 1414 ـ 1994
تاليف : السيد سامي البدري

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 137)


سرّ اعتماد الطبري علي روايات سيف

لم يكن أمر سيف خافياً علي الطبري، وكيف يخفي عليه أمره وشيوخ

الطبري أنفسهم أعرضوا عنه؟ أمثال: عمر بن شبة، وعلي بن محمد المدائني، مضافاً إلي إعراض مُصنّفين آخرين كابن سعد والبلاذري، هذا مضافاً إلي كلمات الرجاليين القدامى أمثال: يحيي بن معين (ت 233هـ)، وأبي داود (ت 275هـ)، والنسائي(ت303هـ).

إذاً لماذا يورِد الطبري روايات سيف ويعتمد عليها؟

والجواب نجده صريحاً من المصنف نفسه، حيث قال في ذكره حوادث سنة (30هـ): «وفي هذه السنة ـ أعني سنة (30هـ) ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه منها إليها (أي المدينة) اُمور كثيرة كرهت ذكرها، أمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة كتب بها إلي السري يذكر: أنّ شعيباً حدّثه

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 138)


سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر»[1].

ويقول في حوادث سنة (35هـ): وذكرت اُموراً كثيرة في سبب مسير المصريين إلي عثمان ونزولهم ذا خشب، منها ما تقدّم ذكره، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة منّي لبشاعته[2]، ثمّ يذكر رواية سيف في ذلك تفصيلاً.

ويقول في حوادث السنّة نفسها أيضاً: «… إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلي معاوية بن أبي سفيان لمّا ولّي، فذكر ـ أي هشام عن أبي مخنف ـ مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها لما فيها ممّا لا يحتمل سماعَها العامّة»[3].

الوضع الفكري في عصر الطبري

ومن أجل أن نفهم كلمات الطبري هذه لا بدّ لنا أن نشير ولو باختصار إلي طبيعة الاجواء الفكرية السائدة في عصره، وقد كانت أجواء صراع بين خطّين:

الاوّل: يحمل التركة العقائدية والحديثية المتبنّاة في العهد الاُموي، والّتي تقوم علي أساس الولاء لمعاوية والبراءة من علي(عليه السلام).

الثاني: يحمل تراثاً عقائدياً وحديثياً يقوم علي أساس الولاء لعلي(عليه السلام) والبراءة من معاوية، ويضمّ هذا الخطّ مدرستين أساسيتين:

الاولي: مدرسة الامام جعفر الصادق(عليه السلام) وتقوم علي أساس الاعتقاد بإثني عشر وصياً عينهم اللّه تعالي لحفظ سنة النبي(صلي الله عليه وآله) في الاُمّة من بعده، أوّلهم علي(عليه السلام) ثمّ الحسن فالحسين، ثمّ تسعة من ذرية الحسين(عليهم السلام)، وأصحاب هذه المدرسة مضطهدون من قبل السلطة في عصر الطبري.

الثانية: مدرسة معتزلة البغداديين التي تقوم علي أساس الاعتقاد بأفضلية علي(عليه السلام)

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 139)


علي أبي بكر وعمر مع صحّة بيعتهما، وهو القول الذي كان يجهر به المأمون وأغلب خلفاء بني العباس.

رأي العامّة في بغداد

وقد كانت «العامّة» في بغداد وغيرها من بلدان الخلافة العباسية إلي سنة (323هـ) تمثّل الخطّ الاوّل في جانب الولاء لمعاوية ومعارضة الطعن عليه، وقد ظهر ذلك واضحاً في حوادث سنة (212ه). قال نفطويه: بعث المأمون منادياً فنادي في الناس ببراءة الذمّة ممّن ترحّم علي معاوية أو ذكره بخير… فأنكر النّاس ذلك واضطربوا ولم ينل مقصوده ففتر إلي وقت[4].

وفي رواية المسعودي: وأمر بلعنه علي المنابر، واُنشئت الكتب إلي الافاق بذلك، فأعظم النّاس ذلك وأكبروه، واضطربت «العامّة» منه، فاُشير عليه بترك ذلك[5].

واستمرّت عامّة بغداد تحمل عقيدة الولاء لمعاوية والغضب علي الطاعنين فيه إلي سنة (323ه)، كما نفهم ذلك من خبر ابن الاثير، قال في حوادث سنة (321ه): أمر علي بن بليق في عهد القاهر بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد علي المنابر ببغداد فاضطربت «العامّة»، فأراد علي بن بليق أن يقبض علي البربهاري رئيس الحنابلة ـ وكان يثير الفتن هو وأصحابه ـ فعلم بذلك فهرب[6].

وقال في حوادث سنة (323ه): وعظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم.. فخرج توقيع الراضي بما يقرأ في الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: (تارة، أنـّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة علي مثال ربّ العالمين،

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 140)


وهيئتكم الرذلة علي هيئته، وتذكرون الكفّ والاصابع والرجلين والنعلين المذهّبين، والشعر القطط، والصعود للسماء، والنزول إلي الدنيا، تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علّواً كبيراً، ثمّ طعنكم علي خيار الائمّة، ونسبتكم شيعة آل محمّد(صلي الله عليه وآله) إلي الكفر والضّلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلي الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الائمّة، وتشنيعكم علي زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون علي زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف، ولا نسب ولا سبب برسول اللّه(صلي الله عليه وآله)، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الانبياء، وكرامات الاولياء، فلعن اللّه شيطاناً زين لكم هذه المنكرات، وما أغواه)[7].

رأي العامّة في دمشق

كان ذلك أمر العامّة في بغداد، أمّا أمرهم في غير بغداد فقد كان أشدّ وخاصّة في دمشق، حيث استمرّ أهلها بالطعن علي علي(عليه السلام) والولاء لمعاوية، كما هو واضح من كلمات النسائي صاحب السنن، حين سئل عن سبب تأليفه كتاب «الخصائص» قال: «دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، وصنّفت كتاب «الخصائص» رجاء أن يهديهم اللّه».

وأوضح منه سبب شهادته علي أيديهم كما روي ذلك من ترجم له، ذكروا: أنـّه خرج من مصر في آخر عمره إلي دمشق فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله، فقال: ألا يرضي رأساً برأس حتي يفضّل؟! فما زالوا يدفعون في حضنيه «وفي شذرات الذهب: في خصييه» حتّي اُخرج من المسجد ثمّ حمل إلي الرملة فدفن بها سنة (303هـ)[8].

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 141)


عقيدة السلف

ويشارك العامّة في معارضة الطعن علي معاوية أغلب أهل الحديث، ويعرفون من قبل المتأخرين بـ (السلف) وهم أحمد بن حنبل صاحب «المسند»، وابن أبي شيبة صاحب «المصنف» والبخاري ومسلم وغيرهم، الذين رووا فضائل معاوية، واعتذروا له عن مخالفته علياً(عليه السلام) في صفين وترحّموا عليه، كما رووا فضائل علي(عليه السلام) وترحّموا عليه، ويسمّي موقف الترحّم علي علي(عليه السلام) ومعاوية والاعتذار لمعاوية بـ «عقيدة السلف».

التشيع لعلي(عليه السلام) بدعة عند السلف

وسمّي السلف موقف التشيع لعلي(عليه السلام) والبراءة من معاوية بـ «البدعة»، وقسموها إلي صغري وكبري.

وأرادوا بـ «البدعة الصغري» التشيع مع الغلوّ أو التشيع بلا غلوّ.

قال الذهبي: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرّفه: هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب علياً(رضي الله عنه) وتعرّض لسبّهم.

والغالي في زماننا وعُرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادّة ويتبرّأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالّ متعثّر.

وأرادوا بـ «البدعة الكبري» الرفض الكامل[9]، أي القول بالوصية وعدم تصحيح بيعة أبي بكر وعمر.

وقال أيضاً: وقد احتوي كتابي هذا علي ذكر الكذّابين الوضّاعين «قاتلهم اللّه»… ثمّ علي الثقات الاثبات الذين فيهم بدعة… ثم البدعة: كبري وصغري.

روي عاصم الاحول عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الاسناد حتّي وقعت

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 142)


الفتنة، فلمّا وقعت نظروا من كان من «أهل السنّة» أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدعة تركوا حديثه[10].

والذي يظهر من كلام ابن سيرين هو أنّ تسمية «التشيع» لعلي(عليه السلام) وتخطئة معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم بـ «البدعة» من تركة الامويين التي حملتها العامّة وأهل الحديث، واستمرّت إلي عهد الذهبي وابن حجر، ومنها إلي اليوم عند البعض.

مدرسة الامام الصادق(عليه السلام)في عصر الطبري

وفي عصر الطبري كان الموقف واحداً إزاء مدرسة الامام الصادق(عليه السلام)، فقد كان الائمّة عليهم السلام مضطهدين من السلطة العباسية، أمّا أتباعهم وحملة حديثهم فقد كانوا مضطهدين مرفوضين من السلطة والعامة معاً، يشاركهم في ذلك في قليل أو كثير أهل الحديث والمعتزلة، وكانوا يسمّون «بالرافضة» ولا زال بعضهم يصرّ علي تسمية شيعة الامام الصادق(عليه السلام) بذلك إلي اليوم.

عقيدة الطبري في الامامة

قال ياقوت: وكان أبو جعفر (الطبري) يذهب في الامامة إلي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل، وكان يكفّر من خالفه في كلّ مذهب، إذ كانت أدلّة العقول تدفع ذلك كالقول في القدر، وقول من كفّر أصحاب رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) من الروافض والخوارج، ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم. وذكر ذلك في كتابه «الشهادات» وفي «الرسالة» وفي أوّل «ذيل المذيل» وكان لا يورث الكفرة منهم، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده وطرحه، وقد هجر طبرستان لمّا انتشر الرفض بها، وقد

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 143)


قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب حديث غدير خم وقال: إنّ علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله(صلي الله عليه وآله) بغدير خم، فبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق حديث غدير خم[11].

قال الذهبي: جمع الطبري طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء رأيت شطره فبهرني لسعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك.

وقال أيضاً: وشُنِّع عليه بيسير تشيع، وما رأينا إلاّ الخير[12].

وقال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة، فسألته أن يجعل كلّ من عاداه في حلّ، فقال: كلّ من عاداني وتكلّم في في حلّ إلاّ رجلاً رماني ببدعة[13].

قال ياقوت: ودفن ليلاً خوفاً من العامّة لانـّهم كانوا يتّهمونه بالتشيع[14].

تأريخ الطبري

وفي ضوء ما عرفنا من طبيعة الوضع الفكري في عصر الطبري، ومن التهمة التي وجّهت إليه من «العامّة» يتّضح لنا سرّ «مراعاته للعامّة» في حوادث الفتنة وحرب الجمل وغيرها، بإيراده روايات سيف، مع اطّلاعه الكامل علي كلمات أهل الجرح والتعديل فيه، وكثرة المجهولين في طرق رواياته.

ويبدو أنّ الطبري كان يهدف لكتابه في التاريخ أن يكون مرآة عاكسة لروايات الاتجاهين المتصارعين ومدارسهما المختلفة، بدرجة تسمح بها حالة عصره، ولا يبتعد بها كثيراً عن عقيدته، فجاء بعدد لا بأس به من روايات الواقدي في الفتنة في قبال روايات سيف فيها، كما جاء بعدد وافر من روايات عمر بن شبة في حرب الجمل، وعدد قليل جدّاً من روايات نصر بن مزاحم فيها، في قبال روايات سيف في ذلك، جاء

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 144)


بذلك من أجل أن لا يكون في صف العاذرين معاوية.

واعتمد كثيراً علي روايات أبي مخنف في حرب صفّين والجمل، ومقتل حجر، وقتل الحسين(عليه السلام)، إلاّ في قتل علي(عليه السلام) وبيعة الحسن(عليه السلام)، فإنّه جاء بروايات الزهري والشعبي وعوانة وغيرهم، لكي لا يحسب من الشيعة الذين يقولون بالوصية للحسن والحسين بعد علي(عليه السلام) بأمر رسول اللّه(صلي الله عليه وآله)، ومراعاة لموقف السلطة السلبي من الحسنيين.

والطبري يراعي العباسيين مراعاة تامّة في ذكره أخبار ولاية العهد للامام الرضا(عليه السلام)، وسبب وفاته وأنـّه أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة، في قبال رواية السم التي كانت معروفة ومتداولة.

وبهذه الرؤية في انتقاء الاخبار تحقق للطبري في كتابه ما أراد له وخاصّة بعد وفاته، وصار الكتاب الاوّل من بين كتب التاريخ لا ينافسه كتاب آخر، وتداوله الحكام والعامّة وغيرهم، وحاز الطبري بسببه علي لقب «إمام المؤرّخين».

وثمّة أمر آخر ساعد الطبري كثيراً علي تحقيق هدفه في كتابه، وهو ما أشار إليه في مقدّمة كتابه قال: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنـّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة ولا معني في الحقيقة، فليعلم أنـّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنّما اُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنّما أدّينا ذلك علي نحو ما اُدّي إلينا[15].

فإنّ هذا الكلام يصلح للردّ علي العامّة لو اعترضوا علي إيراده حديث الدّار والوصية لعلي(عليه السلام)[16]، أو حديث إسلام أبي بكر بعد إسلام خمسين شخصاً[17]. أو حديث أنّ النبي(صلي الله عليه وآله)بعث علياً في صلحه، وأنّ قريشاً بعثت سهيل بن عمرو في صلحها[18] . أو إيراده روايات أبي مخنف في قتل الحسين(عليه السلام)، وهو يصلح أيضاً للردّ علي من ينكر عليه

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 145)


إيراده روايات سيف وعوانة بن الحكم والشعبي وغيرهم ممن عرف بالوضع لصالح الاُمويين.

ومما لا شك فيه أنّ قيمة روايات الطبري وروايات غيره أيضاً بقيمة طرقها وأسنادها، وقد التزم الطبري بإيراد أسانيد أخبار كتابه كاملة، وبهذا يكون قد قدّم خدمة لعلم التاريخ في عصرنا الراهن يشكر عليها، إذ لولا ذلك لما أمكننا تقويم مصادر أخباره أو ترجيح رواية علي اُخري علمياً.

وخلاصة ردّنا علي الدليل الاوّل: هو أنّ الطبري لم يورد روايات سيف اعتقاداً منه بوثاقة سيف، بل مراعاة للعامّة التي كانت تتحسّس جدّاً من الطّعن علي معاوية والحكام من بني اُمية، وخوفاً من نقمتها، ومع ذلك لم يسلم منها حين دفن ليلاً بسببها، وفي ضوئه يبقي الباحث وجهاً لوجه أمام سيف وأسانيده.

رأي الذهبي في أحاديث سيف

كان الذهبي أوّل قائل في حقّ سيف أنـّه: كان أخبارياً عارفاً، وجاء من بعده ابن كثير فرجّح رواية سيف في كيفية قتل عثمان الضعيفة سنداً علي رواية خليفة بن خياط الصحيحة سنداً، وجاء من بعده ابن حجر ليقول: كان سيف ضعيفاً في الحديث، عمدة في التاريخ.

ولم تكن للذهبي ولا ابن كثير ولا ابن حجر حجّة في قبال كلمات الرجاليين

سوي العقيدة المسبقة بالصحابة، والرغبة الجامحة لرؤية التاريخ وفق

المعتقد.

ولست أدري كيف يتحوّل «متروك الحديث باتفاق» كما عبّر الذهبي نفسه في كتابه «المغني في الضعفاء»: «الراوي عن خلق كثير من المجهولين» كما يقول عنه في «ميزان الاعتدال»: «راوي الموضوعات عن الاثبات» «المجمع علي كذبه» كما روي ابن حجر

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 146)


في «تهذيب التهذيب».. أقول: كيف يتحوّل مثل هذا الراوي بعد أربعة قرون من استقرار كلمات أهل الجرح والتعديل فيه إلي «أخباري عارف» و«عمدة في التاريخ»؟ وما هو الجديد الّذي جدّ في سيرته ورواياته وطرقه؟

إنـّه قول بلا دليل في قبال قول الرجاليين القدامي وفي قبال بحث العلاّمة العسكري الذي يتناول شيوخ سيف ورواته ليكشف عن طبيعة المجهولين، الذين عرفت بهم أسانيده وأنـّهم مما تفرّد به سيف كما تفرّد بعدد من أسماء الصحابة اعتبرهم العسكري من مختلقاته.

الذهبي من العاذرين معاوية

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ رأي الذهبي في سيف كان قول عاذر لمعاوية، جاء دعماً وسنداً وانتصاراً لراوية العذر ومختلقه عارياً من الدليل والحجّة.

والذهبي لا يخفي اعتذاره لمعاوية، كما جاء في ترجمته له قال:

وقتل عمار مع علي وتبينَ للناس قول رسول الله(صلي الله عليه وآله): تقتله الفئة الباغية[19] ثمّ قال: وخلْفَ معاوية خلقٌ كثيرٌ يحبّونه، إمّا قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمّا قد ولدوا في الشام علي حبّه وتربّي أولادهم كذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا علي النصب، نعوذ باللّه من الهوي. كما نشأ جيش علي(رضي الله عنه) ورعيته ـ إلاّ الخوارج ـ علي حبّه، والقيام معه، وبغض من

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 147)


بغي عليه والتبرّي منهم. وغلا خلق منهم في التشيع. فباللّه كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلاّ غالياً في الحبّ مفرطاً في البغض؟ ومن أين يقع له الانصاف والاعتدال؟ فنحمد اللّه علي العافية، الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحقّ واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كلّ واحدة من الطائفتين، وتبصّرنا فعذرنا واستغفرنا وأجبنا باقتصاد، وترحّمنا علي البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء اللّه مغفور… وتبرّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا علياً وكفّروا الفريقين[20].

العاذرون معاوية من المحدثين

جاءت كلمات المحدثين المنتصرين لسيف بن عمر تكراراً لكلمات الذهبي وابن حجر، ولا يعنينا من أمرها شيئاً ما دامت كذلك.

ونجد من المفيد أن نقف قليلاً عند كلام أحمد راتب عرموش الذي استخرج روايات «الفتنة ووقعة الجمل» لسيف من الطبري والذهبي وابن عساكر ونشرها في كتاب مستقل. قال في مقدّمته: إنّ عمله في الكتاب جمع رواية سيف بن عمر عن مقتل عثمان ووقعة الجمل من كتب التاريخ المختلفة، وأنـّه بعد مطالعة هذين الموضوعين في معظم كتب التاريخ القديمة والحديثة تبين له أن تاريخ الطبري هو أوفاها موضوعاً وأكملها رواية. ثم نقل كلام ابن خلدون عنه معلّلاً اعتماده الكلّي عليه في حوادث الجمل: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري، اعتمدناه للوثوق به، ولسلامته من الاهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين.

واستشهد أيضاً بكلام سعيد الافغاني في كتابه «عائشة والسياسة» حيث يقول في مقدّمة كتابه: ولا بدّ من الاشارة إلي أنـّي جعلت أكثر اعتمادي ـ بعد البحث في المصادر

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 148)


التاريخية ـ علي الطبري خاصّة، فهو أقرب المصادر من الواقع، وصاحبه أكثر المؤرّخين تحرّياً وأمانة، وعليه اعتمد كلّ من أتي من بعده من الثقات. وليس الكامل لابن الاثير إلاّ تاريخ الطبري منسّقاً مختصراً منه الاسانيد واختلاف الروايات[21].

أقول: ويتبين لنا من هذا الكلام أن دليل سليمان حمد العودة في رسالته لردّ اعتبار روايات سيف لم يكن سوي كلام ابن خلدون فيه، وقد مرّ الكلام مفصّلاً عنه.

ثمّ استشهد بكلمات الدكتور يوسف العش لبيان ضرورة تمحيص روايات الفتنة، وما ذكره أهل الجرح والتعديل في حقّ الواقدي وأنـّه «متروك الحديث» و«ليس بثقة»، «وأنـّه ممن يضع» وقوله: إنّ التاريخ يجب أن لا يؤخذ عن كذّاب.

ثم يضيف عرموش قائلاً: ومن يكذب عن رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) فمن باب أولي أن يكذب عن غيره، طالما أنّ عقاب جريمة الكذب علي رسول اللّه(صلي الله عليه وآله) النّار كما ورد فيه الحديث الشريف: «من كذب علي فليتبوّأ مقعده من النّار».

ثمّ يترجم لسيف بن عمر فلا يذكر عنه إلاّ قول الذهبي: «وكان أخبارياً عارفاً» وقول ابن حجر: «كان ضعيفاً في الحديث، عمدة في التاريخ» أمّا أقوال أهل الجرح والتعديل فيه فكأنـّها لم يذكرها الذهبي ولا ابن حجر ولا غيرهما.

ثمّ يعلّق عرموش بعد ذلك قائلاً: ويبدو من مراجعة كتب التراجم أنّ سيفاً لم يكن من رواة الحديث المعتمدين، لكن يجمع واضعوها علي أنـّه عمدة في التاريخ وأنـّه كان أخبارياً عارفاً.

لقد أخطأ الاستاذ عرموش بحقّ قرّائه أكثر من مرّة في ترجمته لسيف بهذه الطريقة الموهمة.

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 149)


يقول لقرّائه: إنّ من يكذب علي الرسول(صلي الله عليه وآله) يستسهل الكذب علي غيره، ثمّ يقدّم سيفاً لقرّائه علي أنـّه: ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ. ولا يذكر لهم كلمات أهل الجرح والتعديل الصريحة في حقّ سيف أنـّه «كذّاب» «يضع الحديث» «يروي الموضوعات عن الاثبات» وقد أجمعوا علي ردّ روايته في الحديث بسبب ذلك.

ويقول لقرّائه: إنّ التاريخ لا يؤخذ من كذّاب ثمّ يقدّم لهم رواية سيف الكذّاب الوضّاع في تاريخ الفتنة وحرب الجمل بصفتها الاوثق والاقوي.

ولا نريد أن نسترسل معه في الحساب أكثر من ذلك.

ويبقي سيف وضّاعاً

ويتبين لنا مما مضي أنّ سيفاً باق ـ كما ذكر عنه الرجاليون الاوائل ـ كذّاباً وضّاعاً يروي عن خلق من المجهولين، وتأتي دراسة السيد العسكري لاسانيد رواياته ومتونها منسجمة مع كلمات الاقدمين فيه.

خلاصة وتعقيب

1 ـ إنّ الدليل الاوّل الذي اعتمد عليه كاتب «الرسالة» لاعتبار رواية سيف هو تكرار لكلام ابن الاثير وابن خلدون، وقد أجاب عنه الطبري نفسه بأنـّه يورد رواية العاذرين معاوية للحوادث خشية العامّة.

2 ـ وإنّ العامّة في عصر الطبري كانت لا تتحمّل الطعن علي معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما، وكانت السلطة تخشي غضبها في ذلك، وفشلت في تعميم لعن معاوية أكثر من مرّة.

3 ـ وإنّ العامّة في عصر الطبري قتلت النسائي صاحب السنن، لانـّه كتب «خصائص

رسالة الثقلين ـ العدد ـ 8  (صفحه 150)


علي» واستنكر أن يكون لمعاوية فضيلة سوي قول النبي(صلي الله عليه وآله): «اللّهمّ لا تُشبع بطنه»[22].

4 ـ إنّ العامّة في عصر الطبري كانت تسمّي التشيع لعلي والبراءة من معاوية بدعة.

5 ـ إنّ الطبري راعي في انتقاء روايات تاريخه العامّة والسلطة العباسية إلي درجة كبيرة، ولو علي حساب الصحابي أبي ذر الغفاري والامام علي بن موسي الرضا(عليه السلام).

6 ـ إنّ قيمة روايات الطبري بقيمة رواتها، وقد ذكرهم بشكل كامل ونبّه إلي إلقاء التبعة عليهم لمن كان من أهل التحقيق والخبرة.

7 ـ إنّ الدليل الثاني ـ وهو كلام الذهبي في حق سيف ـ لم يكن أكثر من قول عاذر لمعاوية جاء دعماً وسنداً وانتصاراً لراوية العذر ومختلقه.

8 ـ إنّ كلمات المتأخّرين عن الذهبي في حق سيف كانت تكراراً لكلمات الذهبي، ومن موقع الاعتقاد بعذر معاوية في حربه علياً(عليه السلام).

9 ـ إنّ سيف بن عمر يبقي كما ذكر عنه أهل الجرح والتعديل: (كذّاباً) (وضّاعاً) (يروي عن خلق كثير من المجهولين)، وإنّ بحث العسكري في روايات سيف وأسانيده فيها يصدّق مقولة الرجاليين فيه. ولا يفوتنا أن نذكر هنا مشاركة بعض الباحثين المحدثين النتيجة نفسها في حق سيف وردّ رواياته التي ينفرد بها، منهم الدكتور عبدالعزيز الهلالي الاستاذ في جامعة الملك عبدالعزيز، الذي نشر بحثه عن عبدالله بن سبأ في حوليات كلّية الاداب الكويتية السنة الثامنة، ومنه الاستاذ محمد حسن شراب في رسالة الماجستير (المدينة في العهد الاموي)، علي الرغم من أنّ هذا الاخير من العاذرين معاوية وابنه يزيد، كما هو واضح في رسالته الانفة الذكر.

نهاية المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.