مقال نشر في مجلة الفكر الاسلامي العدد ـ سنة 1421هـ ـ 2000
تاليف : السيد سامي البدري
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 187)
المنهج في علم التاريخ بشكل عام
موقع علم التاريخ من العلوم الاُخري :
« يدخل التاريخ في عداد العلوم ( الوصفية ) وهي تختلف عن العلوم العامة اختلافا بينا .
فالعلوم العامة ( الميكانيك والفيزياء ، والكيمياء وعلم الأحياء ) تعمل لاكتشاف قوانين .
والعلوم الوصفية تسعي لمعرفة ( وقائع ) جزئية فتبحث كيف تتوزع أما في المكان وحده ( علم الكون ، علم الجغرافية علم المعادن ، علم النباتات ، علم الحيوان ) أو في المكان وتوالي الأزمنه معا .
والي هذاالنوع الأخير ( الجيولوجيا ، علم العصور التأريخية العتيقة ) ينسب علم التاريخ ، غير أن له وضعه الخاص ، إذ إن جميع العلوم لا تعمل إلاّ في نوع واحد من الظواهر ، بينما علم التاريخ يجب عليه أن يدرس في آن واحد ( نوعين من الوقائع المختلفة كل الاختلاف ) :
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 188)
1 ـ وقائع مادية تعرف بالحواس ( أحوال مادية وأفعال الإنسان ) .
2 ـ وقائع عن طبيعة نفسانية ( عواطف وأفكار ، ودوافع ) لا يدرسها إلاّ الشعور .
والمسلك الذي تفرضه طبيعة مادة المعرفة في التاريخ هو البدء من الوثيقة وهي الأثر الوحيد عن الماضي »(1) .
فالوثيقة هي نقطة الابتداء ، والواقعة الماضية هي نقطة الوصول ، وبين نقطة الوصول هذه ونقطة الابتداء تلك ينبغي المرور بسلسلة مركبة من الاستدلالات المرتبطة بعضها ببعض فيها فرص الخطأ عديدة ، وأقل خطأ سواء ارتكب في البداية أو الوسط أو في نهاية العمل يمكن أن يفسد كل النتائج(2) .
وهكذا تتحدد أمام المؤرخ العلمي مرحلتان من البحث التاريخي هما :
الاُولي : مرحلة جمع الوثائق المرتبطة بالواقعة وتهدف إلي استقصاء الواقعة التأريخية لتمحيصها ونقدها وتعيين درجة الاعتماد عليها .
الثانية : مرحلة إعادة بناء تصور الواقع التاريخي بعد تجزئة المعلومات التي أفرزتها الاُصول والوثائق المعتبرة وتصنيفها وترتيبها علي أساس التسلسل المنطقي للحوادث .
وتتفاوت الدراسات التاريخية عمقا وأصالة بقدر ما يكشف عنه الباحث من حقائق جديدة في كلا المرحلتين أو في إحداهما .
إن المرحلة الاُولي من البحث بكلا محوريها هي الأكثر أهمية ؛ نظرا لسهولة تحريف التاريخ اشتباها أو عمدا ، وأكثر مسوغات التحريف العمدي خصوصا في التاريخ السياسي والمذهبي .
وقد انفتح الغربيون علي النقد التاريخي في القرن الثامن عشر ، وأصبح التاريخ علما له
______________________________
(1) النقد التاريخي ، لانجلو وسنيوبوس ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ص/أ ب .
(2) المصدر السابق : 44 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 189)
منهج واضح المعالم في القرن التاسع عشر علي يد لانجلو وسنيوبوس(1) العالمان الفرنسيان حيث كتبا « المدخل الي الدراسات التاريخية » ظهرت الطبعة الاُولي منه سنة ( 1898 ) وقد عالج الكتاب شروط المعرفة في التاريخ ، وعلاماتها ، وخصائصها ، وحدودها ، وكيفية التعامل مع الوثائق من أجل الإفادة منها في التاريخ ، وقد ترجمه عبد الرحمن بدوي ، وطبع في القاهرة سنة ( 1963 ) .
وفيما يلي تلخيص للمرحلة الاُولي من البحث التاريخي ، وهي مرحلة التعامل مع الاُصول والوثائق كما عرضها هذان العالمان الفرنسيان .
كيفية التعامل مع الاُصول والوثائق :
من الواضح أن أي فحص نقدي للوثائق يسبقه تساؤل عما إذا كانت ثمة وثائق ، وما مقدارها ، وما هي مظانها ؟ فإذا تراءي للمؤرخ أن يعالج نقطة تأريخية آيا كانت فعليه أن يتلمس الموضع ، أو المواضع التي ترقد فيها الوثائق الضرورية ؛ لمعالجتها علي فرض وجودها ، فالبحث عن الوثائق ، وجمعها قسم من الأقسام الرئيسية المندرجة في مهمة المؤرخ .
وبعد الحصول علي الوثيقة يأتي دور نقدها ، وفحصها بنوعين من النقد ، الاُول : النقد الخارجي ، الثاني : النقد الباطني .
النقد الخارجي للوثيقة التاريخية :
أما النقد الخارجي للوثيقة فيدور حول محورين :
الأول : نص الوثيقة .
الثاني : مصدرها .
______________________________
(1) المدخل إلي الدراسات التاريخية ، عبد الرحمن بدوي .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 190)
نقد النص :
قبل استخدام الوثيقة يجب أن نعرف أولاً هل نص الوثيقة ( صحيح ) ، أي يتفق قدر الإمكان من نسخة المؤلف التي كتبها بخطه ؟ فان كان النص ( سقيما ) فيجب تصحيحه ، ومن الخطر أن نعدل عن هذا المسلك ، فإن استخدام نص سقيم أي حرفه النقل قد يفضي إلي أن ننسب إلي المؤلف ما هو في الحقيقة من تحريف الناسخ ، وقد شيدت نظريات استنادا إلي نصوص أفسدها تحريف الناسخ ، ثم تهدمت كلها دفعة واحدة لما اكتشف النص الأصلي لهذه النصوص الفاسدة أو لما اُصلح .
وقد أصبح هذا القسم من المنهج التاريخي ( أي إصلاح النصوص وردها إلي حالتها الأصلية ) اليوم أوفر أقسامه حظا من الرسوخ وانتشار المعرفة بين الباحثين ، ولهذا السبب نقتصر هنا علي تلخيص مبادئه الرئيسية :
فلتكن لدينا وثيقة غير منشورة أو لم تنشر بعد نشرة مطابقة لقواعد النقد فماذا نعمل من أجل تحقيق نصها علي خير نحو ممكن ؟ أمامنا للنظر ثلاث حالات :
الحالة الاُولي : هي الحالة التي يكون لدينا فيها النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه فما علينا حينئذ إلاّ أن ننشر النص بدقة كاملة كما هو .
الحاله الثانية : الأصل مفقود ، ولا يعرف غير نسخة منه ، هنا لابد من أخذ الحيطة ؛ إذ من المحتمل مبدئيا أن تكون النسخة تحتوي علي أغلاط ، والتحريفات التي تطرأ علي الأصل في نسخة منقولة ( وهي التي تسمي باسم اختلافات النقل ) سببها أما التزييف أو الغلط فبعض النساخ يحدثون عن عمد تعديلات ، أو يحذفون مواضع، وكلالنساخ تقريبا ارتكبوا أغلاطا في النقل مرجعها إلي الإدراك ، أو قد تحدث عرضا ، فالأغلاط الراجعة إلي الإدراك تحصل حين يخيل إليهم أن ثمة أغلاطا في الأصل فيصححونها ؛ لأنهم لم يفهموها ، والأغلاط العرضية تحدث حيث يسهون في قراءة الأصل ، أو لايعرفون أن يقرؤوه ، أو حينما يسيئون السماع وهم يكتبون عن إملاء ، أو حينما يرتكبون عن غير قصد سقطات قلمية .
والتحريفات التي تنشأ من التزييف ، وعن الأغلاط في الإدراك غالبا ما تكون صعبة
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 191)
جدا في التصحيح بل في اكتشافها ، وبعض الأغلاط العرضية ( حذف عدة أسطر مثلاً ) لا سبيل إلي تصحيحها في الحالة التي نحن بصدد البحث فيها ، حالة النسخة الوحيدة ، لكن غالبية الأغلاط العرضية يمكن حزره .
الحالة الثالثة : توجد نسخ عديدة مختلفة لوثيقة ضاع أصلها ، وهنا نجد أن العلماء المحصلين المحدثين لهم ميزة علي أسلافهم ، ففضلاً عن أنهم أوفر حظا من المعلومات ، فإنهم يتبعون خطة منظمة لمقابلة النسخ ، والهدف كما في الحالة السابقة هو الحصول علي نص أقرب ما يمكن إلي الأصل .
لقد كان العلماء المحصلون في الماضي ، ومثلهم الناشئون في هذه الأيام ، كان عليهم في مثل هذه الحالة أن يكبحوا حركة أولية بغيضة تصدر عفوا ألا وهي : الاستعانة بأية نسخة تقع في متناول اليد .
والحركة الثانية ليست خيرا من الاُولي : إذا كانت النسخ المختلفة ليست من عصر واحد فيستعان بأقدمها ، والواقع أن الأقدمية النسبية للنسخ ليست لها نظريا وواقعيا في كثير من الأحيان أية أهمية ؛ لأن مخطوطة القرن السادس عشر منقولة عن نسخة جديدة مفقودة من القرن الحادي عشر لها قيمة أكبر بكثير من نسخة مغلوطة معدلة من القرن الثاني عشر أو الثالث عشر .
والحركة الثالثة ليست هي الاُخري حسنة : وهي أن نستخرج القراءات المختلفة للموضع الواحد ونعدها ونقرر وفقا للأغلبية ، فلو كان لدينا مثلاً عشرون نسخة من نص ما : وكانت القراءة ( أ ) تشهد عليها ( 18 ) مخطوطة ، والقراءة ( ب ) تشهد عليها مخطوطتان ، فإن تفضيل ( أ ) علي هذه الأساس معناه أن كل النسخ لها نفس القيمة ، وهذا الافتراض ينطوي علي غلط في الإدراك ، لأنه إذا كانت ( 17 ) نسخة من النسخ الثماني عشرة التي تشهد علي القراءة ( أ ) قد نسخت كلها عن النسخة الثامنة عشرة ، فان القراءة ( أ ) لم يشهد عليها في هذه الحالة غير نسخة واحدة في الواقع ، وأصبح السؤال هو : هل القراءة ( أ ) أحسن أو أسوأ ، ـ من ناحية المضمون والمعني ـ من القراءة ( ب ) .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 192)
وقد تقرر أن الموقف المعقول الوحيد هو أن نحدد أولاً العلاقات بين النسخ بعضها مع بعض ـ وفي هذا السبيل نبدأ من مصادرة لا مشاحة فيها وهي : أن كل النسخ التي تحتوي في نفس المواضع علي نفس الأغلاط هي نسخ منقول بعضها عن بعض ، أو نقلت كلها عن نسخة كانت توجد فيها هذه الأغلاط ، فليس من المعقول أن يرتكب نساخ مختلفون ، وهم ينقلون كل منهم من ناحيته عن الأصل الخالي من الأغلاط ، نفس الأغلاط تماما ، وإذن فالاتفاق في الأغلاط شاهد علي الاتفاق في المصدر ـ وعلينا دون ملامة أن نطرح كل النسخ المنقولة عن نسخة محفوظة لدينا : إذ من الواضح أنه لا قيمة لها إلاّ قيمة هذه النسخة التي هي مصدرها المشترك ، ولا تختلف كلها عنها ، إذا كان ثمة اختلاف ، إلاّ بأغلاط إضافية ، فمن إضاعة الوقت أن نبين اختلافات القراءة الواردة فيها ـ فإذا تم هذا ، فلا يكون أمام المرء غير نسخ مستقلة بعضها عن بعض منقولة مباشرة عن النسخة الأصلية ، أو نسخ فرعية صدرها ( وهو نسخة مأخوذة مباشرة عن الأصل ) مفقود .
ولتصنيف النسخ الفرعية إلي اُسر كل منها تمثل علي نحو متفاوت في النقاوة نفس الرواية ، نلجأ إلي منهج مقارنة الأغلاط ، فهذا المنهج يمكننا عادةبدون عناء من وضع جدول أنساب كامل للنسخ المخطوطة يبرز بكل وضوح أهميتها النسبية ، وليس ها هنا مجال للبحث في الأحوال الصعبة التي فيها تصبح العملية شاقة إلي أقصي حد ، أو حتي غير ممكنة التنفيذ نتيجة سقوط عدد كبير من النسخ الوسطي ، أو سبب ألوان من المزج الاعتباطي بين نصوص روايات كثيرة متمايزة ، علي أن المنهج في هذه الأحوال القصوي لا يتغير ، فإن مقارنة المواضع المتناظرة أداة فعالة لا يملك النقد ها هنا غيرها .
فإذا ما تم وضع شجرة أنساب النسخ ، نقارن الروايات المستقلة ابتغاء الوصول إلي نص الأصل .
نقد المصدر :
والنقد هنا يهدف إلي التحقيق عن مصدر الوثيقة ( المؤلف ) وعن صحة انتسابها إليه ، إذ الوثيقة التي لا يعرف من أين أتت ، ومن هو مؤلفها ، وما هو تاريخها لا تفيد شيئا .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 193)
نتفحص أولاً خط الوثيقة ثم لغتها ، ونجمع كل المعلومات الخارجية المتعلقة بالوثيقة ، والتي توجد متفرقة في وثائق من نفس العصر ، أو من عصر أحدث ، اقتباسات . . . تفاصيل عن ترجمة حياة المؤلّف . . . الخ .
ويهدف النقد أيضا إلي معرفة المصادر التي اعتمدها المؤلّف في وثيقته ، فكثير من الوثائق التاريخية التي تبدو في الظاهر أصيلة ليس إلاّ انعكاسا ( دون ذكر ذلك ) ( وقد يذكر ذلك ) لوثائق أقدم منها ، ومن الواجب في نقد المصدر أن يميز قدر المستطاع المصادر التي استعان بها مؤلّف الوثيقة .
ونتائج نقد المصدر بوصفه يعني بتقدير إسناد الوثائق علي نوعين ، فهو من ناحية يستعيد الوثائق المفقودة .
ومن ناحية اُخري يقضي علي سلطة كثير من الوثائق ( الصحيحة ) أعني غير المتهمة بالتزييف ، وذلك بإثبات أنها فرعية ثانوية تساوي ما تساويه مصادرها(1) .
النقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية :
والنقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية يدور حول محورين أيضا :
الأول : معرفة ما أراد المؤلّف أن يقوله ، أو ينقله في وثيقته ، ويتم ذلك عن طريق تفسير
______________________________
(1) من قبيل أخبار مقتل الحسين عليهالسلام الواردة في كتاب « الإرشاد » للشيخ المفيد فان ورودها فيه قد يوهم البعض أنها أخبار أصيلة ، بينما هي انعكاس لأخبار أبي مخنف ، وقد صرح الشيخ المفيد بذلك (انظر : وقعة الطف لأبي مخنف تحقيق الشيخ محمد هادي اليوسفي : 9 ـ 11 ط1/1367 ه ش ، قم ، الارشاد 2 : 32 ، ط . المؤتمر العالمي ، قم ) وأيضا من قبيل تاريخ الطبري فيما أورده حول الردة ، والفتوح ، والثورة علي عثمان ، وحرب الجمل ، فإنه يصبح مصدرا فرعيا بالنسبة للكتب الاُولي التي أخذ عنها ككتابي الفتوح ، وحرب الجمل ، لسيف بن عمر التميمي الكذاب المشهور ، فقيمة ما جاء في الطبري بخصوص ما نقله من مؤلفات سيف قيمة مؤلّفات سيف وهي قيمة هابطة ، بل لا قيمة لها ؛ لأن المؤلف معروف بالكذب والوضع ، وهكذا قيمة كل كتاب في التاريخ أخذ عن الطبري روايته عن سيف .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 194)
الوثيقة بموجب اللغة التي كتب بها ، وأساليب التعبير الشائعة في عصر المؤلّف ، وهو نقد تحليلي إيجابي .
الثاني : معرفة أمانة المؤلّف ودقته وهو نقد تحليلي سلبي .
تفسير النص ( النقد الإيجابي ) :
والتفسير عملية لغوية ، ولفهم نص ما ينبغي معرفة اللغة التي كتب بها ، وأساليب التعبير الشائعة في عصر كتاب النص ، وبلده ، وطريقة المؤلّف ، أو أسلوبه الخاص ، كما ينبغي أن لا تفسر كل كلمة ، وكل جملة مفردة بل بحسب المعني العام للفقرة أي بحسب السياق ، وهي قاعدة أساسية في التفسير ، قال فوستيل دي كولانج : « ان لدراسة الكلمات أهمية بالغة في علم التاريخ ، فاللفظ الذي يفسر تفسيرا خطأً يمكن أن يكون مصدرا لأغلاط فاحشة » .
أمانة المؤلّف ( النقد السلبي ) :
إن النقد الإيجابي يعرفنا فقط بما أراد المؤلف أن يقوله ، ويبقي أن نحدد :
أ ـ ما اعتقده فعلاً إذ يمكن أن لا يكون أمينا .
ب ـ ما عرفه فعلاً إذ يمكن أن يكون قد أخطأ .
ولهذا يمكن التمييز بين نقد الأمانة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان مؤلف الوثيقة لم يكذب ، وبين نقد الدقة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان المؤلف لم يخطئ في النقل ، ويمكننا التوصل إلي الهدفين عن طريق سلسلتين من الأسئلة :
السلسلة الاُولي : باتجاه كشف الأمانة ، فنتساءل هل كان المؤلف في ظرف من شأنه أن يميل بالمرء عادة إلي عدم الأمانة ، ويجب أن نبحث ما هي هذه الظروف بالنسبة إلي مجموع الوثيقة بوجه عام ، وبالنسبة إلي كل قول بوجه خاص . والجواب تقدمه التجربة ، فكل كذبة صغيرة كانت أو كبيرة سببها القصد الخاص عند المؤلف لإحداث تأثير خاص في قارئه ، وهكذا يرد ثبت الأسئلة إلي ثبت بالمقاصد التي يمكن أن تدفع المؤلفين عادة إلي الكذب ، فهل يحاول المؤلّف أن يجتلب لنفسه ، أو جماعته منفعة عملية ، وهل كان يكره جماعة أو شخصا فحمله ذلك علي تشويه الوقائع ابتغاء أن يعطي فكرة سيئة عن خصومه ، أو كان
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 195)
يتعاطف فحمله عطفه وحبه علي تشويه الوقائع وإعطاء فكرة حسنة عن أصدقائه(1) ، أو كان متملقا لجمهوره ، أو أراد أن يتجنب صدمة جمهوره ، فأغفل ذكر الحقائق(2) أو علق جمهوره بحيل أدبية ، فشوه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوره للجمال من خلال ذكره لتفاصيل أو خطب وقصائد ، وغير ذلك .
والسلسلة الثانية : باتجاه كشف الدقة فهل وجد المؤلف في ظرف من الظروف التي تسوق الإنسان إلي الخطأ ، أن الخبرة العملية المستفادة من العلوم تعرفنا ما هي ظروف المعرفة الدقيقة بالوقائع ، وليس ثمة غير مسلك علمي واحد لمعرفة واقعة ما ، وهو ( الملاحظة ) ، وينبغي أن تكون هذه الملاحظة قد تمت علي وجه صحيح ، ويمكن وضع ثبت الأسئلة الخاصة بدوافع الخطأ ابتداءً من التجربة التي تبين لنا الأحوال المعتادة لوقوع الخطأ ، فهل كان الملاحظ في موضع يستطيع أن يشاهد أو يسمع جديا ( مرؤوس يدعي رواية
______________________________
(1) من قبيل ما صنعه سيف بن عمر في كتابه (الجمل ومسيرة عائشة وعلي) فإنّه شوّه الوقائع ، وحرّف الأخبار لإعطاء فكرة حسنة عن ولاة عثمان من بني اُمية ، وإعطاء تفسير لحوادث الثورة علي عثمان ، ومبرراتها يرفع فيه مسؤولية ولاة عثمان من بني اُمية ، وعمرو بن العاص وعائشة وطلحة الذين حرشوا علي عثمان ، وإلقاء اللوم علي شخصية يهودية مختلقة سماها عبداللّه بن سبأ نسب إليها ذلك ، وأضاف إليه أن جعله أصل التشيع لعلي عليهالسلام وكونه أول قائل بالوصية لعلي عليهالسلام .
(2) من قبيل ما صنعه الطبري مع جمهور قرائه في حوادث سنة ( 30 ) قال : « وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية ، وإشخاص معاوية إياه من الشام الي المدينة وقد ذكر في سبب اشخاصه إ ياه منها إليها (أي المدينة) أمور كثيرة كرهت ذكرها ، أما العاذرون معاوية في ذلك فانهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلي السري بذلك أن شعيبا حدثه سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي . . . » ثم يذكر رواية سيف مفصلاً وقال في حوادث سنة ( 35 ) : (وذكرت اُمور كثيرة في سبب مسير المصريين إلي عثمان ونزولهم ذا خشب منها ما تقدم ذكره ومنها ما عرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته) ثم يذكر رواية سيف بن عمر مفصلة . أقول : إن الطبري في تاريخه يصرح بإغفاله ذكر الحقائق رعاية للجمهور . وقد فصلنا في الحديث عن جمهور الطبري في وقته في بحث نشرته مجلة رسالة الثقلين 8 : 137 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 196)
المداولات السرية التي جرت في مجلس رؤساء ) وهل تحول انتباهه فيها أو أهمل ؛ لأن الواقعة التي كان عليه أن يشاهدها لم تكن تهمه ، وهل افتقر إلي خبره خاصة ، أو أدراك عام لفهم الوقائع ؟ وهل خلط بين وقائع متمايزة ، وخصوصا ينبغي أن نتساءل متي سجل ما رأي أو سمع ؟ وهذه نقطة رئيسية ، وذلك أن الملاحظة الدقيقة الوحيدة هي تلك التي تسجل بمجرد وقوعها ، والانطباع الذي لم يسجل إلاّ فيما بعد مجرد ذكري معرض للاختلاط في الذاكرة بذكريات اُخري ، و ( المذكرات ) التي كتبت بعد الوقائع بعدة سنوات ، وأحيانا في اُخريات حياة المؤلّف قد أدخلت في التاريخ أخطاءً لا تعد ولا تحصي ، ولذلك تعتبر المذكرات وثائق من الدرجة الثانية .
إن هاتين السلسلتين من الأسئلة عن الأمانة والدقة في أقوال الوثيقة تفترضان أن المؤلف شاهد الواقعة بنفسه ، ولكن وثائق التاريخ في أغلب الأحيان ليست من هذا القبيل ، بل أغلبها من الدرجة الثانية ، وهي لا يكفي فيها أن تفحص الظروف التي عمل فيها مؤلف الوثيقة ؛ لأنه ناقل عن راوٍ آخر ، ولهذا ينبغي تغيير ميدان النقد إلي الراوي الثاني حتي نصل إلي الراوي الأول ، وقد يبقي الراوي الأول مجهولاً ، والنقد أيضا بحاجة أن يعرف هل هذه النقول المتوالية قد حافظت علي القول الأصلي أو حرفته ؟ وهل المنقول الذي سجلته الوثيقة كان مكتوبا أو شفويا ؟ فالكتابة تقيد المنقول وتجعل نقله أمينا ، وعلي العكس تجد أن القول الشفوي يظل انطباعا خاضعا للتحريف في ذاكرة المشاهد نفسه باختلاطه بانطباعات اُخري ، وبمروره شفويا بوسطاء يزداد التحريف ، فالنقل الشفوي فيه تحريف مستمر ، ولهذا لا يعتمد في العلوم إلاّ علي النقل المكتوب ، وفي حالة النقل المكتوب نبحث هل ردد المؤلف مصدره دون تغيير ؟ ثم نبحث بوجه عام هل كان من عادته تحريف مصادره وفي أي اتجاه(1)
______________________________
(1) النقد التاريخي : 149 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 197)
خصائص المصادر الاسلامية و اصول البحث فيها
هدف البحث في التاريخ الإسلامي :
إن هدف الباحث في حقل التاريخ الإسلامي هو معرفة ماذا حدث للإسلام ولرسوله ولأتباعه من بعده ، ولماذا جرت الوقائع بهذا الشكل أو ذاك ؟ وبالتفصيل معرفة كيف كانت حالة العالم ، والجزيرة العربية ، ومكة قبل بعثة الرسول صلياللهعليهوآله ، وكيف كانت حياة الرسول صلياللهعليهوآله قبل البعثة ، وبعدها ؟ وكيف كانت مسيرة الإسلام في مكة ، والمدينة في عهد الرسول صلياللهعليهوآله ؟ وكيف كانت مسيرة الإسلام بعده ؟ وكيف دون القرآن الكريم وسنة الرسول صلياللهعليهوآله ؟ ولماذا لم يختلف المسلمون علي رواية النص القرآني ، واختلفوا في رواية سيرة النبي صلياللهعليهوآله ؟ وأمثال ذلك من تفاصيل مسيرة الإسلام إلي اليوم .
وطريقنا اليوم إلي ذلك هو ( النقول ) المدونة . و( النقول ) الإسلامية المدونة التي تداولها المسلمون جيلاً بعد جيل علي قسمين هما : القرآن الكريم ، وكتب الرواية .
القرآن الكريم كوثيقة تاريخية :
القرآن الكريم هو أقدم وأوثق النقول الإسلامية علي الإطلاق ، وهو بغض النظر عن صفة كونه ( وحيا إلهيا ) الصفة التي تجعله الشاهد الثقة المطلق لا علي حوادث عصر السيرة النبوية فحسب ، بل علي مسيرة البشرية منذ آدم ، بل شاهدا علي عملية خلق الكون والسماوات والأرض ، بغض النظر عن هذه الصفة الإلهية يتبوأ ( النص القرآني ) موقع الشاهد الثقة المطلق علي عصر الرسالة من ناحية علمية وموضوعية للحقائق التالية عن القرآن :
1 ـ يرجع عصر ظهوره كنص ونقل محفوظ ومدوَّن إلي عصر الرسالة نفسه ومنذ بدئها .
2 ـ كونه يتناول حوادث عصر النبوة الخاتمة منذ بدئها والي قبيل وفاة النبي صلياللهعليهوآله
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 198)
بشهرين ونصف تقريبا(1) .
3 ـ ارتباط كثير من آياته وسوره بحوادث سميت بحوادث النزول ، أي أن الآية المعينة أو السورة المعينة كانت تنزل بعد الحدث مباشرة أو مقترنة معه ، وهو ما يسمي في علوم القرآن بـ ( أسباب النزول ) ولو استطعنا أن نرتب الآيات والسور حسب نزولها لأمكننا أن نحصل علي ( تاريخ قرآني ) إجمالي لحوادث عصر النبوة .
4 ـ اتفاق المسلمين علي رواية نسخة واحدة من القرآن ، أي إنه لا توجد لدي المسلمين علي الرغم من تعدد الفرق والمذاهب نسخ اُخري يدعي فيها الاختلاف ، وما يذكر في بعض كتب الحديث(2) من حذف أو نسخ تلاوة بعض الآيات لم يعبأ به أحد من المسلمين ، ولم يظهر أثره في النسخ المتداولة للقرآن بين يدي المسلمين خلال هذه القرون العديدة .
وكذلك ما يتناول في ( علم القراءات القرآنية ) لا يعدو عن كون بعض ما ذكر إنما هو قراءة اُخري للفظة لا تؤثر علي المعني تماما ، كما في لفظة « مالك يوم الدين » التي ورد في بعض الروايات جواز قراءتها بـ ( ملك يوم الدين ) وأغلب هذه القراءات شاذ لا يعبأ به ، وهي مسجلة في كتب الرواية وعلوم القرآن(3) .
______________________________
(1) فقد كانت آية إكمال الدين آخر آية نزلت وكان زمان نزولها هو (18) من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة ، وقد بقي النبي صلياللهعليهوآله بعدها إلي آخر صفر أوائل السنة الحادية عشر .
(2) اُنظر صحيح البخاري ج4 باب رجم الحبالي من الزنا ، كتاب الحدود ، روايته عن الخليفة عمر أنه قال : « . . . فكان مما أنزل اللّه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ، فأخشي اِن طال بالناس زمان أن يقول قائل : واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه . . . والرجم في كتاب اللّه حق علي من زنا إذا أحصن » . وفي سنن ابن ماجة عن عمر أيضا قال : وقد قرأتها « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته » وفي موطأ مالك « الشيخ والشيخة فارجموهما ألبته » فأنا قد قرأناها . ومواضع اُخري في كتب اُخري اُنظر تفصيل ذلك في : معالم المدرستين للسيد مرتضي العسكري 2 : 30 ـ 31 .
(3) وقد بحث علماء الإسلام مسألة حفظ النص القرآني من التحريف ، اُنظر بحث المرحوم الطباطبائي ، تفسير الميزان ، وبحث المرجع الخوئي في كتاب البيان ، والشيخ معرفة في كتابه التمهيد في علوم القرآن .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 199)
ومع هذه الأهمية الفائقة للنص القرآني في موضع تدوين تاريخ النبوة الخاتمة ، لم تكتب سيرة شاملة علي أساس تجزئة النص القرآني وتحليله .
روايات التاريخ والحديث :
الروايات الإسلامية هي ( مسموعات ) أو ( مشاهدات ) ينقلها الخلف من المسلمين عن السلف منهم جيلاً بعد جيل إلي عصر الواقعة الإسلامية في عهد الرسول أو بعده . وقد استقر أمر تدوين هذه الروايات الإسلامية في القرون الخمسة الاُولي من الهجرة ، ومنذ ذلك الوقت أخذت أجيال المسلمين تنقل هذه المدونات ، وقد تخصص بعضها في السيرة والتاريخ ، والبعض الآخر في الحديث والفقه ، والآخر في الأدب واللغة ، إلي غير ذلك من فروع المعرفة الإسلامية ، أو مما يرتبط بواقع المسلمين .
إن أبرز علمين إسلاميين يعتمدان علي الرواية بشكل أساسي هما علم التاريخ والسيرة وعلم الحديث ، والروايات فيهما تضمنت سيرة النبي صلياللهعليهوآله وخلفائه الاثني عشر عليهمالسلام .
نوعان من كتب التاريخ والحديث :
وحينما نطالع كتب التاريخ ، والحديث المتيسرة بين أيدينا اليوم نجدها علي قسمين(1) :
الأوّل : يذكر سند روايته في كل ما يروي من خبر وحديث كالطبري في تاريخه وتفسيره ، وابن الخطيب البغدادي في تاريخه ، والبخاري في صحيحه وتاريخه ، والكليني في جامعه الكافي ، وإبراهيم بن محمد الثقفي في كتابه « الغارات » وغيرهم .
الثاني : لا يذكر سند روايته فيما يرويه من أخبار وأحاديث ، وقد يذكر الراوي أو الكتاب الذي أخذ عنه ، وقد لا يعني بذكر ذلك أصلاً ، وممن سلك هذا المسلك اليعقوبي ، والمسعودي ، وابن الأثير ، وغيرهم .
وتنعدم القيمة العلمية لكتب التاريخ والحديث ، خصوصا الكتب المتأخرة التي اعتمد مؤلفوها منهج حذف السند نهائيا في مقابل الكتب المتقدمة عليها زمانا التي اعتمد مؤلفوها
______________________________
(1) خمسون ومئة صحابي 2 : 29 ، التاريخ العربي والمؤرخون ( شاكر مصطفي ) 1 : 378 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 200)
منهج ذكر السند ، ولكنها تكتسب أحيانا بعض القيمة عندما يقترب المؤلف من عصر الواقعة ، أو حين يفتقد الكتب الاُخري التي يذكر مؤلفها سنده إلي الواقعة ، أو عندما يكون للمؤلف اعتبار خاص في كتابه ذاك ، كما هو الحال في تاريخ اليعقوبي ، فعلي الرغم من أن تاريخه قام علي أساس نهج حذف السند إلي الواقعة التي يرويها خاصة فيما يرجع إلي عهد الجاهلية وسيرة الرسول صلياللهعليهوآله وما جري بعده ، إلاّ أن لرواياته قيمة خاصة في مقابل تاريخ الطبري الذي التزم طريقة ذكر السند ، وذلك لأنه ينبه الي معلومات أغفلها الطبري .
مصادر التاريخ الإسلامي في الفترات الثلاث :
يمكننا تقسيم فترات التاريخ الإسلامي إلي ثلاثة عصور هي : عصر الرسالة ، وعصر الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام ، وعصر الغيبة الكبري ، وفي ضوء ذلك فان مصادر التاريخ الإسلامي ليست ذات طبيعة واحدة ، ويمكننا تحديد مصادر كل فترة كما يلي :
أولاً ـ عصر الرسالة : ومصادرنا أو وثائقنا عنه هي : القرآن الكريم ، وكتب أسباب النزول وتاريخ تدوين القرآن ، وكتب الحديث النبوي الشريف سواء المروي عن الصحابة أو عن أهل البيت عليهمالسلام . وكتب التاريخ والطبقات .
ثانيا ـ عصر خلفاء النبي الاثني عشر : ومصادرنا أو وثائقنا عنه هي : كتب الحديث ، وكتب التاريخ وكتب الطبقات والرجال ، وما تركه رجال هذه الفترة من آثار خطية مباشرة .
ثالثا ـ عصر الغيبة : ومصادرنا عنه كتب الحديث ، وكتب التاريخ ، وكتب الرجال ، وما تركه رجال هذا العصر من آثار خطية مباشرة .
والي جنب هذه الوثائق والمصادر الأساسية هناك وثائق ومصادر مساعدة ، وأحيانا ترتقي في قيمتها إلي مستوي الوثيقة الأساسية ، وهي كتب البلدان واللغة والعلوم الاُخري المدونة في الفترة التي نؤرخ لها .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 201)
طبيعة جهد الباحث في النص القرآني :
إن جهد الباحث في ( النص القرآني ) ينصب علي النص نفسه بحكم عدم وجود مشكلة ذات بال في السند ، حيث إن الاُمة مجمعة علي رواية النص القرآني ، وعدم الاختلاف فيه جيلاً بعد جيل إلي عصر نزول القرآن .
طبيعة جهد الباحث في الرواية :
أما جهد الباحث في ( الرواية ) الواردة في كتب الحديث أو التاريخ فينصب أولاً علي ( السند ) وثانيا علي ( المتن ) .
المراحل التي مرّت بها الرواية :
عند ملاحظتنا للرواية المسندة في الجوامع ، والمصنفات الأولية المعتبرة في الحديث ، والتاريخ يمكننا أن نميز بين ثلاث مراحل مرت بها الرواية ، نذكرها بإيجاز كما يلي :
المرحلة الاُولي :
مرحلة وجود الرواية في الموسوعات ، والجوامع الأولية كروايات السيرة النبوية ، أو الفتوحات الإسلامية زمن الخليفة أبي بكر وعمر ، أو حرب الجمل أو صفين ، أو روايات مقتل الحسين عليهالسلام الموجودة في تاريخ الطبري أو نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد .
وكذلك من قبيل روايات الإمام الصادق عليهالسلام في الأحكام الشرعية المختلفة الموجودة في كتاب الكافي .
المرحلة الثانية :
مرحلة وجود الرواية في الكتب التي أخذ منها أصحاب الجوامع والموسوعات الأولية ، وهذا النوع من الكتب له تسمية خاصة لدي علماء مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، حيث يسمونها بـ ( الاُصول ) وأرادوا بالأصل : الكتاب الذي جمع فيه مؤلفه الروايات التي أخذها عن المعصوم مباشرة ، أو عن راوٍ أخذها عن المعصوم ولم يدونها في كتاب ، أي انهم أرادوا بالأصل الكتاب الذي لم ينقل مؤلفه من كتاب آخر قبله .
وقد اشتهر عندهم ما يسمي بـ ( الاُصول الأربعمئة ) أرادوا بها الاُصول المؤلفة في عصر
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 202)
الإمام الصادق عليهالسلام من قبل تلاميذه في الفقه خاصة ، أو في الفقه وغيره(1) .
ونحن نستعمل لفظة الأصل هنا في مقابل الجامع ، ونريد بالأصل الكتاب الذي صنفه مؤلفه لا عن كتاب كان قبله ، ومن أمثال هذه الاُصول : كتاب « الفتوح الكبير والردة » و « الجمل ومسير علي عليهالسلام وعائشة » لسيف بن عمر ( ت بعد سنة 170 ه ) وقد اعتمدهما الطبري تماما ، وفرقهما علي أبواب تاريخه ، وملأ بها حوادث الفترة التي تناولها الكتابان ، ومنها أيضا مقتل الحسين عليهالسلام لأبي مخنف ( ت 175 ه ) وقد اعتمد عليه الطبري في باب مقتل الحسين أورد كل أو اغلب رواياته بأسانيدها . ومنها أيضا كتاب « وقعة صفين » لنصر بن مزاحم المنقري ( ت 212 ه ) وكتاب « الغارات » لمحمد بن إبراهيم الثقفي ( ت 283ه ) وقد اعتمد ابن أبي الحديد ( ت 656 ه ) علي كتاب « وقعة صفين » ففرقه جميعا علي أبواب كتابه « شرح نهج البلاغة »(2) ، كما نقل أكثر كتاب « الغارات » في شرح النهج إيضا(3) .
المرحلة الثالثة :
مرحلة وجود الرواية عند الراوي أو الرواة الأوائل الذين لم يخلفوا مدونات تتناقل من بعدهم عنهم ، وإنما رووا روايات شفاها ، سواء كانت لديهم مدونات ومذكرات خاصة بهم أو لم تكن ، كما هو شأن الأكثر بسبب منع الخلفاء الثلاثة ، وخلفاء بني اُمية إلي عهد عمر بن عبد العزيز .
______________________________
(1) للتوسعة حول مصطلح ( الأصل ) اُنظر الاُصول الأربعمئة ، للسيد محمد حسين الجلالي ، وعبداللّه بن سبأ 2 : 138 والذريعة إلي تصانيف الشيعة ، لفظة أصل .
(2) قال عبد السلام هارون : أمكنني أن أعثر علي جميع نصوص كتاب وقعة صفين في شرح ابن أبي الحديد ولم يخطئني من ذلك إلاّ نحو نيف وعشرين صفحة ( وقعة صفين تحقيق عبد السلام هارون : 15 ) .
(3) انظر كتاب الغارات ( المقدمة ) 1 : 4 ، المقدمة تحقيق مير جلال ارموي .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 203)
خطوات العمل التوثيقي في المصادر الإسلامية :
بعد أن ميزنا بين ثلاث مراحل مرت بها الرواية الإسلامية ، نسأل أنفسنا السؤال التالي : من أين نبدأ العمل التوثيقي في بحث التاريخ الإسلامي ، هل نبدأ بالجوامع الأولية ، أو بالأصول التي أخذت عنها تلك الجوامع ؟ أو بالرواة الأوائل الذي روي لهم أصحاب تلك الأصول ؟
ويتحدد الجواب بالميسور بين أيدينا من الوثائق وهو الجوامع الأولية ، وهي اليوم طريقنا إلي تلك الاُصول المفقودة ، وفي ضوء ذلك تكون الخطوات كما يلي :
الخطوة الاُولي :
تحصيل نسخة صحيحة من الجامع الأولي ، أما بالعثور علي نسخة المؤلف ، أو الأقرب فالأقرب إلي نسخته .
الخطوة الثانية :
تحليل الجامع الأولي إلي الاُصول التي أخذ منها؛ فقد نستطيع أن نحصل علي بعض هذه الاُصول كاملة من الجامع نفسه ، كما صنع بعض المحققين مع كتاب نصر بن مزاحم ، حين كوَّن نسخة ثالثة انتزعها من شرح ابن أبي الحديد ، وجعلها إلي جنب نسختين مخطوطتين اُخريين ، وكما صنع محقّق آخر مع كتاب « مقتل الحسين لأبي مخنف » حيث انتزعه من كتاب « تاريخ الطبري » .
وإذا استطعنا أن نحصل علي نسخة الأصل نعول عليها في البحث ، خصوصا إذا كانت منقولة بطريق آخر غير الجامع موضع البحث وأكثر وثاقة منه .
الخطوة الثالثة :
توثيق مؤلف الأصل والرواة الأوائل الذين أخذ عنهم ، إذ قد يكون صاحب الأصل هذا أو رواته الذين اعتمدهم ممن يحترف ( الوضع ) أو ( الكذب ) في الأخبار لصالح السلطة ، أو بدافع الهوي والعصبية ، أو بدافع الجهل .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 204)
الخطوة الرابعة :
وتكون الخطوة هي مقارنة متن الرواية الواردة في الطرق المعتبرة والنسخ المختلفة ، لتشخيص المتن المعتبر .
وعلي أساس نتائج البحث في الخطوة الثالثة تتحدد قيمة الأصل ، ومن ثَمَّ قيمة الجامع الذي أخذ منه .
وعلي أساس الخطوة الرابعة تحدد قيمة ، المتن ومنه تؤخذ المعلومات لإعادة بناء الواقعة التاريخية بعد سلامتها من المعارضة .
مسوغات اعادة نقد المصادر الاسلامية
مسوغات إعادة نقد مصادر التأريخ الإسلامي :
قد يقول قائل : هل توجد ضرورة تستدعي نقد الوثائق والمصادر التاريخية الإسلامية أو إعادة توثيقها بالطريقة التي تحدثنا عنها آنفا ؟ ألا يكفي ما قام به العلماء المسلمون الأوائل في الحديث والتاريخ الذين تصدوا لنقد رجاله ، وتمييز صحيحه من ضعيفه ؟ وهل نتوقع ان نأت بأمر جديد غفل عنه اُولئك الأفذاذ ، وقد كانوا أقرب منا عهدا بالرجال والرواية مع وفرة الوثائق والمصادر ، ونحن أبعد عهدا عن الحوادث ورجال الرواية مع ابتلاء الوثائق والمصادر بالضياع والدمار بسبب النكبات والكوارث علي يد التتار وأمثالهم ؟
وفي صدد الإجابة عن هذه الأسئلة توجد بين أيدينا ثلاثة عوامل ، كل واحد منها يفرض بشكل مستقل أن يكون الجواب بالإيجاب وهذه العوامل هي :
أولاً : عامل ( تناقض المعلومات ) عن الواقعة الواحدة سواء في دائرة ما ورد في الجوامع والأصول ، أو بينها وما ورد في القرآن الكريم .
ثانيا : عامل ( الكذب ) عند الرواة ، سواء في طبقة الصحابة حيث أخبرنا القرآن الكريم بوجود المنافقين ، أو في طبقة التابعين ومن بعدهم ، حيث أجمع المعنيون بالرواية ورجالها علي وجود الكذابين والوضاعين ، الذين اختلقوا كثرا أو حرفوا بالزيادة والنقيصة في المتن
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 205)
أو السند أو بكليهما .
ثالثا : عامل ( النتائج ) التي أسفر عنها التحقيق المعاصر ، وقبلت مقولة : « وهل أبقي الأوائل للأواخر شيئا » إلي مقولة : « وكم ترك الأوائل للأواخر من أشياء » من قبيل النتائج التي أسفر عنها التحقيق العلمي الذي قام به السيد مرتضي العسكري في مصادر التاريخ والحديث ، حيث كشف عن خمسين ومئة صحابي مختلق ، ورواة مختلقين ، وحوادث مدونة في التاريخ لم تقع أصلاً ، ومدن لم تبن ، وشعراء لم يخلقوا ، وحسب الناس كل ذلك من الحقائق طيلة اثني عشر قرنا ، وتحقيقات اُخري تقرب مئة في قليل أو كثير ، وفيما يلي تفصيل أكثر عن هذه العوامل :
1 ـ تناقض المعلومات في المصادر الإسلامية :
ذكرنا سابقا أنّ وثائق التاريخ الإسلامي علي قسمين هما : القرآن الكريم ، وكتب الرواية.
ويتميز النص القرآني بكونه رواية واحدة علي الرغم من اختلاف وتعدد طرق نقله ، وبكونه خاليا من التناقض فلا توجد مشكلة من هذه الناحية في القرآن الكريم . نعم اُثيرت مشكلة تحريف النص بالزيادة والنقيصة ، أو تغيير بعض الكلمات ولكنها مدفوعة من قبل المسلمين عامة ، وبالبحث العلمي نفسه في تاريخ تدوين القرآن ، وطريقة نقله من جيل إلي جيل .
أما كتب الرواية . . فهي علي قسمين بلحاظ موضوع الرواية :
الأول : كتب رواية السنة النبوية .
الثاني : كتب رواية نشاطات المسلمين في عصر المعصوم أو بعده ، وما يرتبط بأعدائهم أو الاُمم الاُخري المعاصرة لهم .
أما كتب رواية السنة النبوية ، فلابد من التمييز بين موقفين إزاءهما :
أحدهما : موقف من السنة النبوية نفسها ، ويقتضي الموقف الإسلامي أن تكون كالقرآن الكريم لأنها صادرة عن معصوم .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 206)
والآخر : موقف من كتب رواية السنة ، ويقتضي هذا الموقف التأكد من صدق الرواة وأمانة المؤلف ، وأن لا تكون الرواية معارضة للقرآن ، ومن هنا عندما نجد في كتب رواية السنة روايات تعارض القرآن ، أو تعارض روايات آخر ، علينا أن لا ننسب التناقض إلي السنة النبوية نفسها بل إلي الرواة الذين نقلوا السنة لأنهم غير معصومين في النقل وغيره .
وقد جرت محاولات من قبل بعض فئات المسلمين لاعتبار بعض كتب رواية السنة النبوية فوق البحث في ما أوردته من روايات وأسانيد اعتمادا علي الثقة العالية التي منحوها للمؤلف ، أمثال جامع البخاري الذي اعتبروه ( أصح الكتب بعد كتاب اللّه )(1)ويليه جامع مسلم ، وقد اشتهرا بالصحيحين ، ويليهما السنن الأربعة وهي : سنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وسنن الترمذي ، وسنن ابن ماجة وقد عرفت هذه الكتب الستة بـ ( الصحاح الستة ) .
وقد نجحت هذه المحاولات علي صعيد الصحاح الستة وبالخصوص صحيح البخاري وصحيح مسلم ، قال النووي : وهما ( أي الصحيحان ) أصح الكتب بعد القرآن الكريم ، والبخاري أصحهما ، وقيل : مسلم أصح والصواب الأول ، وعليه الجمهور(2) .
وجرت مثل هذه المحاولات بخصوص الكتب الأربعة وهي : كتاب الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والإستبصار ، غير أنها لم تنجح واستمر البحث في سند الروايات مفتوحا إلي اليوم(3) .
أما بخصوص كتب روايات نشاطات المسلمين ، وهي كتب التاريخ والطبقات ، فالأمر فيها أهون من كتب الحديث إذ لم يجمع الكل علي عدم ضرورة البحث فيها ، نعم قد تكون حصةالبعض منالاعتمادوالشهرة أكثرمن غيرهكماحصل لتاريخ الطبري ، وسيرة ابن هشام .
______________________________
(1) اُنظر الإمام البخاري ( لتقي الدين الندوي ) : 92 ـ 93 ، وبحوث في تاريخ السنة ( لأكرم العمري ) : 238 .
(2) الإمام البخاري ( لتقي الدين النووي ) : 93 .
(3) انظر معجم رجال الحديث ( للسيد الخوئي رحمهالله ) الجزء الأول .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 207)
وهكذا تكون إحدي المبررات لنقد مصادر كتب الحديث ـ حتي تلك التي اشتهرت بالصحاح ـ هي وجود التعارض والتناقض بين بعض روايات هذه الكتب مع القرآن الكريم ، أو التعارض فيما بين الروايات نفسها ، وكذلك الأمر في كتب التاريخ ، ومن الطبيعي عدم كفاية شاهد واحد علي التعارض للحكم بضرورة النقد في كل المصادر ، بل لابد منه عند اتساع المعارضة وشمولها .
ونورد فيما يلي عددا من شواهد التعارض بين روايات جامع البخاري ومسلم مع القرآن الكريم في مواضيع متعددة ، وعددا آخر من شواهد التعارض بين روايات الحديث والتاريخ فيما بينها وفي موضوع السيرة النبوية .
التعارض بين القرآن وروايات الحديث :
في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال اُناس يا رسول اللّه هل نري ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا يا رسول اللّه ، قال : فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك ، يجمع اللّه الناس فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقي هذه الاُمة فيها منافقوها ، فيأتيهم اللّه في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم فيقول : نعوذ باللّه منك(1) هذا مكاننا حتي يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأيتهم اللّه في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم فيقول : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم(2) . . .
وفيه أيضا . . . فيأتيهم الجبار . . . فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون : الساق ، فيكشف عن ساقه . . .(3) .
______________________________
(1) في صحيح مسلم : يقولون : نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه شيئا ، حتي أنّ بعضهم ليكاد ينقلب .
(2) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قول اللّه تعالي : «وجوه يومئذ ناضرة * إلي ربها ناظرة» ، وكتاب الأذان باب فضل السجود ، وكتاب الدعوات ، باب الصراط .
(3) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قول اللّه تعالي : «وجوه يومئذ ناضرة * إلي ربها ناظرة» ، كتاب تفسير القرآن باب ن والقلم ، وفي صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب 81 ، حديث 302 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 208)
وفيه أيضا . . . فأما النار فلا تمتلئ حتي يضع رجله فتقول : قط قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلي بعض(1) .
وهذا يتعارض مع قوله تعالي : « لا تُدْرِكهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يدْرِك الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ »(2) .
وفي صحيح البخاري قال عمر : لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي(3) ، وفيه أيضا قال عمر : لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتي يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب اللّه فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه ، ألا وإنّ الرجم حق علي من زني وقد أحصن إذا قامت البينة(4) .
وفيه أيضا : قال عمر : فكان فيما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها(5) .
وفيه أيضاعن أنس بن مالك قال : اُنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بَعدُ ( بلغوا قومنا أما قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه )(6) .
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : كان فيما اُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول اللّه صلياللهعليهوآله وهن مما يقرأ من القرآن(7) .
وهذا يتعارض مع قوله تعالي : « إنّا نحن نزَّلنا الذكر وإنّا له لحافظون »(8) .
______________________________
(1) صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن سورة ( ق ) .
(2) الأنعام : 103 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب الشهادة تكن عند الحاكم .
(4) صحيح البخاري ، كتاب المحاربين ومن أهل الكفر ، باب الاعتراف بالزنا .
(5) البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة .
(6) البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فضل قوله تعالي : «ولا تحسبن الذين قتلوا فيسبيل اللّه أمواتا بل أحياء» وباب نكب من سبيل اللّه ، وكتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع .
(7) صحيح مسلم ، كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات .
(8) الحجر : 9 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 209)
التعارض بين روايات الحديث نفسها :
في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلياللهعليهوآله يقول : اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة(1) .
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : دخل علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله رجلان فكلَّماه، فأغضباه فلعنهما فسبهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول اللّه من أصاب من الخير شيئا ما أصاب هذان ، قال : وما ذاك ، قلت : لعنتها وسببتهما قال : أَوَ ما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنّما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا .
وفيه أيضا قالت : فسبهما ولعنهما وأخرجهما ، وفيه عن أبي هريرة : أن النبي صلياللهعليهوآله قال : اللهم فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته ، جلدته ، فاجعله له زكاة وأجرا ، وفيه أيضا أ نّه قال : اللهم إنّما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن آذيته ، أو سببته ، أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة(2) .
وعن عائشة أنها قالت : إنّ أمداد العرب كثروا علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله حتي غموه وقام إليه المهاجرون يفرجون عنه ، حتي قام علي عتبة عائشة فرهقوه فأسلم رداء في أيديهم ووثب علي العتبة فدخل ، وقال : اللهم العنهم فقالت عائشة : يا رسول اللّه هلك القوم فقال : واللّه يا بنت أبي بكر لقد اشترطت علي ربي عزّوجلّ شرطا لا خلف له فقلت : إنما أنا بشر أضيق كما يضيق به البشر فأي المؤمنين بدرت إليه مني بادرة فاجعلها له كفارة(3) .
وهذا يتعارض مع قوله تعالي : « وإنّك لعلي خُلُقٍ عَظِيمٍ »(4) .
ويتعارض أيضا مع أحاديث اُخر تثبت للنبي صلياللهعليهوآله خلقا آخر ، ففي صحيح البخاري عن أنس أنه قال : لم يكن رسول اللّه صلياللهعليهوآله فاحشا ولا لعّانا ولا سبابا(5) .
______________________________
(1) البخاري ، كتاب الدعوات ، باب قول النبي من آذيته .
(2) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب من لعنه النبي وليس هو أهلاً لذلك .
(3) مسند أحمد بن حنبل 6 : 107 .
(4) القلم : 4 .
(5) البخاري ، كتاب الأدب ، باب ما ينهي عن الأسباب ، وكتاب بدء الخلق ، باب صعد النبي صلياللهعليهوآله .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 210)
وعن عائشة قالت : ما لعن رسول اللّه صلياللهعليهوآله من لعنة تذكر(1) .
وعن أبي هريرة أن النبي صلياللهعليهوآله قال : لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعّانا(2) .
وعن أبي الدرداء أن النبي صلياللهعليهوآله قال : لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة(3) .
وعن أبي عمر أن النبي صلياللهعليهوآله قال : لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعّانا(4) .
وفي البخاري عن عائشة قالت : لددنا رسول اللّه في مرضه وجعل يشير إلينا لا تلدوني ، قلنا كراهية المريض بالدواء ، فلما أفاق قال ألم أنهكما أن تلدوني ؟ قلنا كراهية المريض للدوا ، فقال رسول اللّه صلياللهعليهوآله : لا يبقي منكم أحدا إلاّ لُدّ وأنا أنظر إلاّ العباس فإنه لم يشهدكم(5).
ويتعارض ذلك ما روته عائشة قالت : واللّه ما انتقم رسول اللّه لنفسه في شيء قط إلاّ أن تنتهك حرمة اللّه فينتقم بها للّه(6) .
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت ( كان رسول اللّه صلياللهعليهوآله مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر فإذن له ، وهو علي تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول اللّه صلياللهعليهوآله وسوي ثيابه ، فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتش له ، ولم تباله ، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم
______________________________
(1) مسند أحمد 6 : 130 .
(2) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب النهي عن لعب الدواب .
(3) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب النهي عن لعب الدواب .
(4) كنز العمال 3 : 350 ح1/305 .
(5) البخاري ، كتاب الديات ، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب ؟ كتاب الطب ، باب اللدود ، كتاب المغازي باب مرض النبي صلياللهعليهوآله .
(6) البخاري ، كتاب الأدب ، قول النبي يسّروا ولا تعسّروا . وكتاب الحدود باب إقامة الحدود ، باب المحاربين ، باب التعزير ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة النبي .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 211)
تباله ، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال : ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة(1) .
وفيه أيضا عن عائشة قالت : إن أبا بكر استأذن علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله وهو مضطجع علي فراشه لابس مرط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضي إليه حاجته ثم انصرف ، ثم استأذن عمر فأذن له وهو علي تلك الحال فقضي إليه حاجته . ثم انصرف ، ثم استأذن عثمان فقال النبي صلياللهعليهوآله لعائشة اجمعي عليك ثيابك فقضي إليه حاجته ثم انصرف ، فقالت عائشة يا رسول اللّه مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان ؟ قال رسول اللّه صلياللهعليهوآله : إنّ عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له علي تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته(2) .
ويعارض ذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : كان النبي صلياللهعليهوآله أشد حياء من العذراء في خدرها(3) .
التعارض بين روايات الحديث والتاريخ :
وفيما يلي عشرة نماذج من الروايات المتعارضة المرتبطة بالسيرة النبوية .
1 ـ روي ابن هشام في السيرة النبوية ، والطبري في تاريخه : أ نّه حين قدم أبرهة وجيشه لهدم الكعبة ، أمر عبد المطلب قريشا بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال(4)والشعاب(5) تخوفا عليهم من معرة الجيش(6) . وأ نّه قال لرسول أبرهة : واللّه ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . . . هذا بيت اللّه . . . فواللّه ما عندنا دفع عنه .
وتعارضها رواية اليعقوبي في تاريخه حيث قال : لما قدم أبرهة ملك الحبشة صاحب الفيل مكة ليهدم الكعبة تهاربت قريش في رؤوس الجبال ، فقال عبد المطلب : لو اجتمعنا
______________________________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، فضائل عثمان 4 : 1866 .
(2) المصدر السابق .
(3) البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة النبي صلياللهعليهوآله ، كتاب الأدب ، باب من لم يواجه الناس بالعقاب .
(4) شعف الجبال : رؤوسها .
(5) الشعاب : المواضع الخفية بين الجبال .
(6) معرة الجيش : شدته .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 212)
فدفعنا هذا الجيش عن بيت اللّه ؟ فقالت قريش : لا طاقة لنا به ، فأقام عبد المطلب في الحرم وقال لا أبرح من حرم اللّه ، ولا أعوذ بغير اللّه(1) .
2 ـ ما روته كتب السيرة والتاريخ وبعض كتب الحديث من أنّ النبي صلياللهعليهوآله كان أجيرا لخديجة يتجر لها في مالها(2) ، وأ نّه كان يرعي غنما لأهل مكة علي قراريط(3) .
ويعارض ذلك ما رواه اليعقوبي في تاريخه عن عمار بن ياسر أ نّه قال : وإنّه ما كان مما يقول الناس أنها استأجرته بشيء ، ولا كان أجيرا لأحد قط(4) .
3 ـ ما روته كتب السيرة والتاريخ ، وبعض كتب الحديث في كيفية نزول الوحي لأول مرة علي النبي صلياللهعليهوآله أ نّه بعد أن أقرأه جبرائيل الآيات الأُولي من سورة العلق ، رجع وقال لخديجة : « إنّ الأبعد ويعني نفسه لَشاعِر أو مجنون ، لا تحدِّث بها عني قريش أبدا ، لأعمدن إلي حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأستريحن » . ثم خرج يريد ذلك ، حتي إذا كان في وسط من الجبل سمع صوتا من السماء يقول له : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، ثم رجع إلي خديجة فقال لها : إنّ الأبعد لشاعر أو مجنون ثم حدثها بالذي رأي .
فقالت له : أبشر يا ابن عم واثبت . . . ثم أجلسته علي فخذها حين جاءه جبرئيل فألقت خمارها ورسول اللّه جالس في حجرها . فقالت له هل تراه ؟ قال : لا ، فقالت : يا ابن العم ، اثبت وابشر فواللّه انه لملك وما هو بشيطان(5) .
ويعارض ذلك ماورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام أ نّه قال : « ولقد قرن اللّه به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله
______________________________
(1) تاريخ اليعقوبي 1 : 252 .
(2) السيرة النبوية ( لأبن هشام ) 1 : 187 تاريخ الطبري 2 : 280 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الإجازة ، عن أبي هريرة .
(4) تاريخ اليعقوبي 2 : 71 .
(5) تاريخ الطبري : 301 ـ 303 ، سيرة ابن هشام 1 : 153 ـ 156 ، البخاري ، كتاب الوحي .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 213)
ونهاره ، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أُمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري . . . ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلياللهعليهوآله فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنة ؟ فقال هذا الشيطان آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع ، وتري ما أري ، إلاّ أ نّك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وأ نّك علي خير »(1) .
4 ـ ما رواه الطبري وبعض كتب الحديث : من أنّ أول من أسلم أبو بكر(2) .
ويعارض ذلك ما رواه الطبري نفسه وغيره من المؤرخين والمحدثين ، من أنّ أول من أسلم هو علي بن أبي طالب عليهالسلام (3) وأنّ أبا بكر أسلم بعد إسلام خمسين رجلاً(4) .
5 ـ ما روته كتب التفسير والحديث والتاريخ في قوله تعالي : « إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْك عُصْبَةٌ مِّنكمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّا لَّكم بَلْ هُوَ خَيرٌ لَّكمْ لِكلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّي كبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لوْلاَ إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيرا وَقَالُوا هذا إِفْك مُّبينٌ * لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يأْتُوا بالشُّهَدَاء فَأُولَئِك عِندَ اللّهِ هُمُ الكاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيكمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ لَمسَّكمْ فِيمَا أَفْضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكم مَّا لَيسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَه هَينا وَهُوَ عِندَ اللّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يكونُ لَنَا أن نَّتَكلَّمَ بِهذَا سُبْحَانَك هذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »(5) أنهانزلت في تبرئة عائشة مما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة(6) .
______________________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة ، العبارة ( وتري ما أري ) سقط منها ( لا ) علي الأكثر فتكون العبارة الصحيحة ( ولا تري ما أري ) .
(2) تاريخ الطبري 2 : 214 ـ 215 .
(3) تاريخ الطبري 2 : 309 ـ 313 .
(4) تاريخ الطبري 2 : 216 .
(5) النور : 11 ـ 16 .
(6) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، مجمع البيان في تفسير القرآن ( للطبرسي ) ، وكل تفاسير أهل السنة ، تاريخ الطبري 2 : 610 ـ 619 ، السيرة النبوية ( لابن هشام ) وغيرها .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 214)
ويعارض ذلك ما رواه علي بن إبراهيم القمي من أنها نزلت في مارية القبطية ، وما رمتها به عائشة(1) .
6 ـ ما روته كتب التاريخ والسيرة والحديث من أنّ قريشا بعثوا سهيل بن عمرو إلي رسول اللّه ليصالحه وأنّ حوار الصلح تم بينه وبين النبي صلياللهعليهوآله مباشرة(2) .
ويعارض ذلك ما رواه الطبري في تاريخه من أنّ النبي صلياللهعليهوآله بعث عليا عليهالسلام في صلحه حين بعثت قريش سهيل بن عمرو ليصالح عنها(3) .
7 ـ ما روته كتب السيرة والتاريخ والتفسير من أنّ بيعة الشجرة والرضوان المشار إليها في قوله تعالي : « لقَدْ رَضِي اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يبَايعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكينَةَ عَلَيهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا »(4) كانت بسبب ما شاع بين المسلمين في الحديبية من أنّ قريشا قتلت عثمان بن عفان حين أرسله النبي إلي قريش ليبلغها بخبر مجيئه للعمرة لا للقتال .
ويعارض ذلك ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره من أنّ بيعة الشجرة والرضوان هي مبايعتهم للرسول بعد رجوعهم من صلح الحديبية علي ما اشترطه اللّه عليهم أن لا ينكروا علي رسول اللّه شيئا يفعله ، ولا يخالفوا في شيء يأمرهم به(5)، وذلك لمخالفتهم الرسول صلياللهعليهوآله في أمر الصلح ، وشكهم وامتناعهم من النحر ، والحلق بعد الصلح ، وتأجيلهم العمرة إلي العام المقبل(6) .
8 ـ ما روي في بعض كتب الحديث ، والطبقات ، والسيرة من أنّ الرسول صلياللهعليهوآله توفي في
______________________________
(1) تفسير القمي 2 : 99 .
(2) السيرة النبوية ( لابن هشام ) ، تاريخ الطبري ، طبقات ابن سعد ، صحيح البخاري ، وغيرها .
(3) تاريخ الطبري 2 : 631 .
(4) الفتح : 18 .
(5) تفسير القمي 2 : 315 .
(6) تاريخ الطبري 2 : 637 ، صحيح البخاري ، صلح الحديبية .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 215)
حجر عائشة ، وأنّ عائشة قالت : وما مات إلاّ بين سحري ونحري(1) .
ويعارض ذلك ما روي عن علي بن الحسين عليهالسلام وابن عباس أ نّهما قالا : قبض رسول اللّه صلياللهعليهوآله ورأسه في حجر علي عليهالسلام (2) .
9 ـ ما روي في بعض كتب الحديث ، والطبقات ، والتاريخ من أنّ رسول اللّه صلياللهعليهوآله توفي ولم يوصي إلي أحد ، قيل لأُم المؤمنين عائشة أكان رسول اللّه صلياللهعليهوآله أوصي إلي علي ؟ قالت : لقد كان رأسه في حجري ، فدعا بالطست ، فبال فيه فلقد انخنث في حجري ، وما شعرت به ، فمتي أوصي إلي علي ؟(3)
ويعارض ذلك ما روي في كتب الحديث ، والتفسير ، والتاريخ ، والطبقات من أنّ رسول اللّه قد أوصي إلي علي عليهالسلام وأ نّه صلياللهعليهوآله قد أعلن ذلك منذ يوم الدار حين أعلن دعوته لقريش ، وظل يكرر ذلك خلال رسالته وبمناسبات مختلفة ، كان آخرها وعلي مرأي ومسمع من مئة ألف أو يزيدون في غدير خم(4) .
10 ـ ما رواه الطبري عن سيف بن عمر التميمي عن رواته أ نّه قال لعمرو بن حريث متي بويع أبو بكر ، قال يوم مات رسول اللّه صلياللهعليهوآله ، كرهوا أنْ يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة ، قال : فخالف عليه أحد ؟ قال لا ، إلاّ مرتد أو من كاد يرتد ، لولا أنّ اللّه عزّوجلّ ينقذهم من الأنصار . قال : فهل خالف أحد من المهاجرين ؟ قال : لا ، تتابع المهاجرون علي بيعته من غير أنْ يدعوهم ، وروي سيف أيضا قال : كان علي في بيته إذ أُتي فقيل له قد جلس أبو بكر للبيعة فخرج في قميص ما عليه إزرار ، ولا رداء عجلاً كراهية أنْ يبطئ عنها حتي بايعه ثم جلس إليه ، وبعث إلي ثوبه فتجلله ولزم مجلسه(5) .
______________________________
(1) طبقات ابن سعد 2 : 261 .
(2) طبقات ابن سعد 2 : 263 .
(3) طبقات ابن سعد 2 : 261 .
(4) انظر معالم المدرستين : ج 1 ، الطبعة الثانية ، بحث الوصية ، وكذلك الغدير 7 : 173 .
(5) الطبري 3 : 208 ، صحيح البخاري .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 216)
ويعارض ذلك ما روي في كتب السيرة ، والتاريخ ، والصحاح ، والمسانيد ، والأدب ، والكلام ، والتراجم ، من تخلف علي عليهالسلام ومعه العباس بن عبد المطلب ، وعتبة بن أبي لهب ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، والبراء بن عازب ، والزبير بن العوام ، وأُبي بن كعب ، وجماعة من بني هاشم ، وجمع من المهاجرين والأنصار ، وأ نّهم تحصّنوا في دار فاطمة عليهاالسلام (1) وان عليا عليهالسلام لم يبايع أبا بكر ستة اشهر ، ولا أحد من بني هاشم حتي توفيت فاطمة عليهاالسلام .
2 ـ الرواة الكذابون :
ينحصر الطريق الاعتيادي لنقل المعلومات عن الوقائع التاريخية بالرواة ، وأكبر آفة تصيب هذا الطريق هو ( الكذب ) من قبل هؤلاء الرواة أنفسهم ، ومن هنا يتعين علي الباحث أنْ يحرز أولاً عدم الكذب في الرواة الناقلين للخبر المعين .
وقد أجمع علماء المسلمين علي وجود الكذابين ، والوضاعين بين الرواة ، وحملة الأخبار في جيل ما بعد الصحابة ، وفرضوا علي أنفسهم التمييز بين الرواة .
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : « إنّا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقات منهم ، وضعفت الضعفاء ، وفرقت بين من يعتمد علي حديثه وروايته ، وبين من لا يعتمد علي خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذموا المذموم ، وقالوا : فلان متهم في حديثه وفلان كذاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد وفلان واقفي وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب »(2) .
وروي في اختيار رجال الكشي في ترجمة المغيرة بن سعيد عن هشام بن الحكم أ نّه سمع أبا عبد اللّه يقول :
______________________________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب : عبد اللّه بن سبأ 1 : 102 ـ 132 .
(2) عدة الأُصول : 366 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 217)
كانالمغيرةبنسعيديتعمدالكذب عليأبي،ويأخذكتبأصحابه،وكانأصحابهالمستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدخلونها إلي المغيرة فكان يدس فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلي أبي ثم يدفعها إلي أصحابه فيأمرهم أنْ يبثوها في الشيعة .
وفيه أيضا عن يونس قال : أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليهالسلام ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه عليهالسلام متوافرين فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد علي أبي الحسن الرضا عليهالسلام وقال لي : لعن اللّه أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب ، يدسّون هذه الأحاديث إلي يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه(1) .
وقال ابن أبي حاتم الرازي ( ت 327 ه ) : « فلما لم نجد سبيلاً إلي معرفة شيء من معاني كتاب اللّه ، ولا من سنن رسول اللّه صلياللهعليهوآله إلاّ من جهة النقل والرواية ، وجب أنْ نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والاتقان منهم ، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة »(2) .
وذكر ابن حبان أيضا : أنّ الزنادقة كانوا يدخلون بأهل العلم ، ويضعون الحديث علي العلماء ، وروي عن ابن أبي لهيعة أ نّه قال : دخلت علي شيخ وهو يبكي فقلت له : ما يبكيك ؟ قال : وضعت أربعمئة حديث أدخلتها في برنامج الناس فلا أدري كيف أصنع(3) .
______________________________
(1) اختيار معرفة الرجال : 224 ـ 225 .
(2) مقدمة الجرح والتعديل : 5 .
(3) كتاب المجروحين ( لابن حبان ) : 62 ـ64 . خمسون ومئة صحابي مختلق 1 : 43 ، ط 4 ، وما فيه نقل عن الطبري 3 : 376 ، ط أوروبا وابن الأثير 6 : 3 وابن كثير 10 : 113 ، وعن الذهبي في ميزان الاعتدال ، ولسان الميزان واللفظ للطبري في حوادث سنة 155 هجرية قال : إنّ والي الكوفة محمد بن سليمان ، كان قد حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء علي الزندقة فكثر شفعاؤه عند الخليفة المنصور ، ولم يتكلم فيه إلاّ ظنين منهم ، فكتب إلي محمد بن سليمان بالكف عنه إلي ان يأتيه رأيه ، وكان ابن أبي العوجاء قد أرسل إلي محمد يسأله ان يؤخره ثلاثة أيام ويعطيه مئة ألف فلما ذكر ذلك لمحمد أمر بقتله ، فلما أيقن أ نّه مقتول قال : ( أما واللّه لئن قتلتني لقد وضعت أربعة آلاف حديث اُحرِّم فيه الحلال وأحل فيه الحرام ، واللّه لقد فطّرتكم يوم صومكم وصوّمتكم في يوم فطركم ) .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 218)
وقال ابن حبان أيضا : إنّ من الرواة من امتحن بابن سوء أو كانوا يضعون له الحديث وكان آمن الشيخ ناحيتهم . فكانوا يقرؤون عليه ويقولون له هذا من حديثك فيحدث به(1) .
وقال يحيي بن سعيد القطان : ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث(2) .
وقد أحصي العلامة الأميني رحمهالله في بحثه ( سلسلة الكذابين ) سبعمئة ممن قال عنه علماء الحديث والرجال إنّه كذاب أو وضاع(3) وفيهم من كان يقوم عامة الليل بالصلاة أو كان معروفا بالزهد والعبادة ، ومع ذلك كان يضع الحديث .
فالهيثم الطائي كان يقوم عامة الليل بالصلاة وإذا أصبح يجلس ويكذب .
ومحمد بن إبراهيم الشامي كان من الزهاد وهو كذاب وضاع .
والحافظ عبد المغيث الحنبلي كان موصوفا بالزهد والدين واتّباع السنة والآثار ، وهو يؤلف من الموضوعات كتابا في فضائل يزيد بن معاوية .
ومعلي بن صبيح من عباد الموصل وكان يضع ويكذب .
ومحمد بن عكاشة كان بكاءً عند القراءة وهو وضاع أي وضاع .
وأحمد الباهلي كان من كبار الزهاد وهو ذلك الكذاب الوضاع ، قال ابن الجوزي : كان يتزهد ويبحر شهوات الدنيا فحسن له الشيطان هذا لفعل القبيح .
وأبو داود النخعي كان أطول الناس قياما لليل ، وأكثرهم صياما بنهار وهو وضاع .
وجعفر بن الزبير كان مجتهدا في العبادة وهو وضاع(4) .
وجمع العلامة الأميني رحمهالله ما ذكر صدفة في كتب الرجال من مقلوبات وموضوعات الكذابين فبلغ ما يقرب من أربعمئة ألف حديث موضوع ومقلوب(5) .
______________________________
(1) كتاب المجروحين : 77 .
(2) مقدمة صحيح مسلم .
(3) اُنظر الغدير ج 5 ، سلسلة الكذابين والوضاعين .
(4) انظر الغدير ج 5 ، سلسلة الكذابين والوضاعين .
(5) الغدير 5 : 288 ـ 290 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 219)
ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار مؤلفي الصحاح والمسانيد أخبار تآليفهم من أحاديث كثيرة هائلة ، فأبو داود أتي في سننه بأربعمئة آلاف وثمان ومئة حديثا ، وقال : انتخبته من خمسمئة الف حديث(1) ، ويحتوي صحيح البخاري ألفي حديث وسبعمئة وواحد وستين اختاره من زهاء ستمئة ألف حديث(2) ، وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمئة ألف حديث(3) . وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمئة وخمسين ألف حديثا(4)(5) .
لا توجد مشكلة علي صعيد الرواة بعد جيل الصحابة ما دام علماء الإسلام يعتقدون بوجود الكذابين والوضاعين بينهم ، ويرون وجوب كشفهم ومعرفتهم لاجتناب أحاديثهم .
أما علي صعيد جيل الصحابة فتوجد مشكلة أساسية وهي وجود نظرتين مختلفتين إلي الصحابة :
النظرة الاُولي : جميع الصحابة عدول
يري أصحاب هذه النظرية وهم جمهور أهل السنة أنّ جميع الصحابة عدول .
قال الحافظ أبو حاتم الرازي ( ت 327 ه ) من رجال الجرح والتعديل عند أهل السنة ، « فأما أصحاب رسول اللّه صلياللهعليهوآله فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل ، وعرفوا التفسير والتأويل ، وهم الذين اختارهم اللّه عزّوجلّ لصحبة نبيه صلياللهعليهوآله ونصرته ، وإقامة دينه ، وإظهار حقه ، فرضيهم له صحابة ، وجعلهم لنا أعلاما وقدوة ، فحفظوا عنه صلياللهعليهوآله ما بلغهم عن اللّه عزّوجلّ ، وما سن وشرع ، وحكم وقضي ، وندب وأمر ، ونهي وحظر وأدب ،
______________________________
(1) عن طبقات الحافظ ( للذهبي ) 2 : 154 ، تاريخ بغداد 9 : 57 ، المنتظم ( لأبن الجوزي ) 5 : 97 . نقل .
(2) عن إرشاد الساري 1 : 28 ، صفوة الصفوة 4 : 143 .
(3) عن شرح صحيح مسلم ( للنووي ) 1 : 32 ، المنتظم ( لابن الجوزي ) 5 : 32 ، طبقات الحافظ 2 : 151 نقل .
(4) عن طبقات الذهبي 2 : 17 .
(5) الغدير 5 :292 ـ 293 نقل .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 220)
ووعوه واتقنوه ففقهوا في الدين ، وعلموا أمر اللّه ونهيه ومراده بمعاينة رسول اللّه صلياللهعليهوآله ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله ، وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم اللّه عزّوجلّ بما من عليهم ، وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة ، فنفي عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والفخر واللمز ، وسماهم عدول الاُمة ، فقال عن ذكره في محكم كتابه : « وكذلك جعلناكم اُمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس » ففسر النبي صلياللهعليهوآله عن ذكره قوله ( وسطا ) قال : ( عدلاً ) فكانوا عدولة الاُمة ، وأئمة الهدي ، وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة »(1) .
وقال ابن عبد البر ( ت 463 ه ) : « أثبتت عدالة جميعهم »(2) .
وقال ابن الأثير ( ت 360 ه ) : « . . . إنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام إلي غير ذلك من أمور الدين إنّما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها ، وأولهم والمقدم عليهم أصحاب رسول اللّه صلياللهعليهوآله فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشد جهلاً ، وأعظم إنكارا ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم . . .
والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّ في الجرح والتعديل فإنّهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح . . . »(3) .
وقال الحافظ ابن حجر : « اتفق أهل السنة علي أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة . . . »(4) .
وروي عن أبي زرعة أ نّه قال : « إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول اللّه صلياللهعليهوآله فاعلم أ نّه زنديق وذلك أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنّما أدّي
______________________________
(1) مقدمة الجرح والتعديل : 7 .
(2) الاستيعاب في امساء الأصحاب : المقدمة . والآية : 143 من سورة البقرة .
(3) اُسد الغابة في معرفة الصحابة ، المقدمة .
(4) الإصابة في تمييز الصحابة ( المقدمة ) : الفصل الثالث .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 221)
ذلك إلينا كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أنْ يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولي وهم زنادقة »(1) .
وأصحاب هذه النظرة إلي الصحابة يعممونها علي من لقي النبي صلياللهعليهوآله مؤمنا به وما علي الإسلام سواء طالت مجالسته للنبي أو قصرت ، ومن روي عنه ، أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغزُ ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه(2) .
النظرة الثانية : في الصحابة مؤمنون ومنافقون
يري أصحاب هذه النظرية وهم شيعة أهل البيت أنّ الصحابة مشمولون بقانون الجرح والتعديل كغيرهم من الرواة ، ويستدلون علي ذلك بسورة براءة التي تسمي بـ ( الفاضحة ) وآيات آخر كثيرة ، منها قوله تعالي : « وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلي عذاب عظيم »(3) .
وبما ورد في كتب الحديث جميعا عن النبي صلياللهعليهوآله أنّ من الصحابة من يؤمر به إلي النار ، ففي رواية البخاري عن ابن عباس عن النبي صلياللهعليهوآله : أنّ اُناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال : إنّهم لا يزالون مرتدين علي أعقابهم منذ فارقتهم(4) .
وفي رواية أبي وائل عن عبد اللّه بن عباس عن النبي صلياللهعليهوآله فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك !(5)
______________________________
(1) المصدر السابق .
(2) الإصابة ( لابن حجر العسقلاني ) : الفصل الأول في تعريف الصحابي .
(3) التوبة : 101 .
(4) صحيح البخاري : كتاب بدء الخلق ، باب قوله تعالي : « واتخذ اللّه إبراهيم » كتاب تفسير القرآن ، سورة المائدة .
(5) صحيح البخاري ، كتاب الدعوات ، باب في الحوض ، وقوله تعالي : « إنّا أعطيناك الكوثر » ، باب كيف الحشر .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 222)
وفي رواية سهل بن سعد ، وأبي سعيد : ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم . . . فيقال : إنّك لا تدري ما بدلوا بعدك ؟(1)
وفي رواية أبي هريرة عن النبي صلياللهعليهوآله : بينما أنا قائم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلُمَّ : فقلت أين ؟ قال إلي النار ، قلت وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدوا علي أدبارهم القهقري . . . فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل . . . النعم(2) .
وفي رواية سهل بن سعد : سحقا سحقا لمن غير بعدي(3) .
وفي كلام أمير المؤمنين علي عليهالسلام إشارة واضحة إلي هذه النظرة إلي الصحابة وأنّ فيهم الصادقين وفيهم الكاذبين .
قال سليم بن قيس الهلالي قال : قلت لأمير المؤمنين عليهالسلام : إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي اللّه صلياللهعليهوآله غيرما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي اللّه صلياللهعليهوآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أنّ ذلك كله باطل ، أفتري الناس يكذبون علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم ؟ قال : فاقبل علي فقال : قد سألت فافهم الجواب :
إن في أيدي الناس حقا وباطلاً ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعاما وخاصا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله علي عهده حتي قام خطيبا فقال : أيها الناس قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ثم كذب عليه من بعده .
وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس .
______________________________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الفتن ، باب ما جاء في قوله تعالي : « واتقوا فتنة » .
(2) صحيح البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الحوض ، وقوله تعالي : « إنّا أعطيناك الكوثر » .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الحوض .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 223)
رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله متعمدا ، فلو علم الناس أ نّه منافق كذاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول اللّه صلياللهعليهوآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه ، وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره اللّه عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزّوجلّ : « وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم »(1) ثم بقوا بعده فتقربوا إلي أئمة الضلالة والدعاة إلي النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال ، وحملوهم علي رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا وإنّما الناس مع الملك والدنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا أحد الأربعة .
ورجل سمع من رسول اللّه شيئا لم يحمله علي وجهه ووهم فيه ، ولم يتعمد كذبا فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلياللهعليهوآله فلو علم المسلمون أ نّه وَهْم لم يقبلوه ، ولو علم هو أ نّه وَهْم لرفضه .
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلياللهعليهوآله شيئا أمر به ثم نهي عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهي عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أ نّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أ نّه منسوخ لرفضوه .
وآخر رابع لم يكذب علي رسول اللّه صلياللهعليهوآله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسول اللّه صلياللهعليهوآله ، لم ينسه ، بل حفظ ما سمع علي وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعلم بالناسخ ورفض المنسوخ فإنّ أمر النبي صلياللهعليهوآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ( وخاص وعام ) ومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول اللّه صلياللهعليهوآله الكلام له وجهان : كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال اللّه عزّوجلّ في كتابه : « ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » فيشتبه علي من لم يعرف ولم يدر ما عني اللّه به ورسوله صلياللهعليهوآله وليس كل أصحاب رسول اللّه صلياللهعليهوآله كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم
______________________________
(1) المنافقون : 4 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 224)
من يسأله ولا يستفهمه حتي أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطاري فيسأل رسول اللّه صلياللهعليهوآله حتي يسمعوا(1) .
3 ـ جدة النتائج في التحقيق المعاصر :
قام علماؤنا ( رضوان اللّه عليهم ) (2) ببحوث تحقيقية عديدة في مجال الدراسات الحديثية والتاريخية ، وكل واحدة منها تصلح لأن تكون دافعا لمواصلة نقد مصادر الدراسات الإسلامية ومنها مصادر التاريخ الإسلامي ، ونعرض فيما يلي لواحدة من أهم دراسات التحقيق علي الإطلاق في مرحلتنا المعاصرة وهي ما قام به خبير عصره في التحقيق التاريخي العلامة السيد مرتضي العسكري من دراسة لأحاديث سيف بن عمر .
ترجمة سيف بن عمر :
هو سيف بن عمر التميمي الأسيدي كما في الطبري 1 : 1749 اُوروبا ، ولباب الأنساب 1 : 49 ، واُسيد هو عمرو بن تميم ، ونسبهم في جمهرة الأنساب 199 ، والاشتقاق لابن دريد 201 ـ 2 ـ 6 .
وما ورد في فهرست ابن النديم ( الأسدي ) ما هو إلاّ من غلط النساخ .
وما ورد في تهذيب التهذيب ( الرجمي والسعدي أو الضبي ، فإنها وإنْ تكن من بطون تميم ولكنها لا تجتمع مع الأُسيدي في النسب وقد تكون أنسابه إليهم بالحلف إنْ صحّ ما ذكره .
______________________________
(1) الكافي 1 : 62 ـ 63 ، نهج البلاغة خ 20 والآية : 7 من سورة الحشر ، الامتناع والمؤانسة 3 : 197 ، تذكرة الخواص لابن الجوزي : 142 .
(2) كالعـلاّمة الأميني رحمهالله في مـوسوعته الغـدير ، والعـلاّمة السيد عبد الحسين شـرف الدين رحمهالله في كتـابه أبي هريرة وغيره ، والعلاّمة السيد مير حامد حسين الهندي رحمهالله ( ت 1306 ه ) في موسوعة عبقات الأنوار .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 225)
وكان كوفيا علي ما في تهذيب التهذيب وخلاصة التهذيب وفي هداية العارفين بغدادي كوفي بالأصل ) .
وكانت وفاته بعد السبعين والمئة كما في خلاصة التهذيب . وفي التهذيب قرأت بخط الذهبي مات سيف زمن الرشيد(1) .
مؤلفات سيف :
ألف بن عمر كتاب « الفتوح الكبير والردة » و « الجمل ومسير عائشة وعلي » علي ما في الفهرست والهداية وذكر له في اللباب والتهذيب وكشف الظنون كتاب الفتوح وحده(2)ويبدو أنَّ سيف قد وضع تأليفه في الربع الأول من القرن الثاني الهجري(3).
طريقة سيف في التأليف :
سلك سيف بن عمر المسلك السائد في عصره في التأليف وهو أنْ يذكر سنده إلي الواقعة التي يتحدث عنها ، ومن هنا جاءت الروايات في كتابيه مسندة بدءا بشيوخه الذين يزعم أ نّه يروي عنهم ، وانتهاءً بالصحابة التابعين الذين يزعم وجودهم أو اشتراكهم في الواقعة المزعومة .
أهمية كتابي سيف :
أصبح كتابا سيف الاُصول والمصادر الأساسية لكل من جاء بعده .
وقد استقي من معين سيف المؤلفون الأوائل أمثال :
أ ـ أبي مخنف لوط بن يحيي ( ت 157 ه ) .
ب ـ نصر بن مزاحم ( ت 208 ه ) .
ج ـ خليفة بن خياط ( ت 240 ه ) .
______________________________
(1) عبد اللّه بن سبأ 1 : 61 ، 4 .
(2) ابن سبأ 1: 62.
(3) خمسون ومئة صحابي مختلق 2 : 23 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 226)
د ـ البلاذري ( ت 279 ه ) .
ه ـ الطبري ( ت 310 ه )(1) .
وقد أخرج الطبري كتابي سيف موزعا علي حوادث السنين في ( تاريخه ) ، وابن عساكر موزعا علي ( تراجمه ) دون ما ذكر تأليفه ، والذهبي في ( تأريخه الكبير ) مع التصريح باسم تأليفه في المقدمة وكذلك فعل ابن أبي بكر في ( التمهيد ) .
واستخرج مترجمو الصحابة أسماءً كثيرة من كتابيه وترجموا لتلك الأسماء ضمن تراجم الصحابة كابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر والذهبي وغيرهم .
وآخر من صرح بوجود كتاب سيف هو ابن حجر المتوفي سنة 852 هجرية في كتابه الإصابة(2) .
ميزة روايات سيف في كتابه :
إنّ أهم ميزة لروايات سيف في كتابيه هي ( التفرد ) متنا وسندا ، فلا يجد الباحث في غير كتابي سيف أسماء عدد كبير ممن ترجموا في عداد الصحابة ، وعدد آخر ممن ترجموا في عداد الرواة ، وكذلك لا يجد الباحث عند غير سيف أسماء عدد كبير من الأماكن والحروب ، وقتل مئات الآلاف من أبناء الأُمم الاُخري علي أيدي المسلمين ، وتهديم المدن وغير ذلك(3) .
كلمات علماء الرجال والحديث في سيف :
قال يحيي بن معين ( ت 223 ه ) : « ضعيف الحديث فَلْسٌ خير منه » .
وقال النسائي صاحب الصحيح ( ت 303 ه ) : « ضعيف متروك الحديث ليس بثقة ولا مأمون » .
وقال أبو داود ( ت 316 ) : « ليس بشيء كذاب » .
______________________________
(1) المصدر السابق : 23 .
(2) انظر عبد اللّه بن سبأ 1 : 62 .
(3) انظر عبد اللّه بن سبأ 2 : 308 . خمسون ومئة صحابي مختلق 2 : 35 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 227)
وقال ابن أبي حاتم ( ت 316 ) : « ليس بشيء كذاب » .
وقال ابن السكن ( ت 353 ه ) : « ضعيف » .
وقال ابن عدي ( ت 365 ه ) : « ضعيف ، بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها » .
وقال ابن حبان ( ت 354 ه ) : « يروي الموضوعات عن الأثبات ، اتُّهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث » .
وقال الحاكم ( ت 405 ه ) : « متروك ، اتهم بالزندقة » .
ووهّاهُ الخطيب البغدادي ( 406 ه ) كما في ترجمة خزيمة غير ذي الشهادتين من الإصابة .
ونقل ابن عبد البر( ت 463 ه ) عن أبي حيان انه قال فيه : « سيف متروك وإنما ذكرنا حديثه للمعرفة » ولم يعقب ابن عبد البر علي هذا الحديث شيئا .
وقال الفيروزآبادي ( ت 817 ه ) : « صاحب تواليف » وذكره مع غيره وقال عنهم : « ضعفاء » .
وقال ابن حجر ( ت 852 ه ) بعد إ يراد حديث ورد في سنده اسمه : « فيه ضعفاء أشدهم سيف » .
وقال صفي الدين ( 923 ه ) : « ضَعَّفوه ، له في الترمذي فرد حديث »(1) .
منهج العلاّمة العسكري في كشف مختلقات سيف :
كرّس العلاّمة السيد مرتضي العسكري كتاب عبد اللّه بن سبأ بجزئيه وكتاب خمسون ومئة صحابي مختلق بجزئيه لدراسة روايات سيف بن عمر ومقارنتها بغيرها ، وقد توصّل
______________________________
(1) عبد اللّه بن سبأ 1 : 62 ـ 63 .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 228)
إلي نتيجة خطيرة وهي أنّ سيف قد اختلق أو حرّف كل ما نقرأ من أمثال عبد اللّه بن سبأ والقعقاع بن عمرو الذي عدّ من الصحابة وأمثالهم ممن لم تلدهم أُمهاتهم ، وأمثال قسم كبير من حروب الردة التي لم تقع أصلاً ، وغيرها من المختلقات والموضوعات .
وكان منهجه حفظه اللّه في اكتشاف أنّ عبد اللّه بن سبأ والأُسطورة السبئية من مختلقات سيف بن عمر هو أنْ وجد المؤرخون القدامي ، أمثال ابن الأثير ، وابن خلدون ، وابن كثير ، والكتاب المتأخرين ، أمثال محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ، وحسن إبراهيم حسن ، وأحمد أمين ، والباحثين من المستشرقين أمثال فان فلوتن ، ونيكلسن ، فيسينك ومن معه مؤلفي دائرة المعارف الإسلامية وولهاوزن وغيرهم ، قد أخذوا الأُسطورة السبئية بعضهم من بعض وأنّ سند جميعهم في ما ينقلون ينتهي إلي المصادر الأربعة الآتية :
1 ـ تاريخ الطبري .
2 ـ تاريخ دمشق لابن عساكر .
3 ـ التمهيد والبيان لابن أبي بكر .
4 ـ تاريخ الإسلام للذهبي .
ثم رجع إلي هذه المصادر الأربعة فوجدها تروي الأُسطورة بإسنادها مسلسلة عن سيف بن عمر وحده ، ووجد سيف بن عمر يتفرد برواية الأُسطورة السبئية .
ثم درس العلامة العسكري سيف بن عمر فوجد أنّ نشاطه الأدبي كان في الربع الأول من القرن الثاني الهجري .
ودرس عصره فوجد العصبية القبلية قد عمّت البلاد في عصره ، يتباري شعراء عدنان وقحطان بنظم القصائد في مدح أنفسهم وذم القبيلة الاُخري .
ووجد سيف بن عمر ، عدنانيا يتعصب لقبيلته يختلق لهم الفضائل في أساطيره ، ويتعصب علي القحطانيين فيختلق لهم المثالب فيها ، ووجد الأُسطورة السبئية تنسب الفتن كلها إلي القحطانيين وتدفع عن العدنانيين ما نسب إليهم .
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 229)
ووجد العلماء يصفونه بالكذب ويتهمونه بالزندقة ويصفون حديثه بالوضع والضعف ، وبعد كل ذلك استنتج أنّ سيف بن عمر هو الذي اختلق الأُسطورة السبئية .
وكان منهجه حفظه اللّه في معرفة الصحابة الذين اختلقهم سيف هو دراسة سند الخبر المذكور فيه اسم الصحابي المشكوك أمره فإذا وجده ينتهي إلي غير سيف ترك البحث حول الصحابي ولم يعتبره من مختلقات سيف ، أما إذا وجد السند ينتهي إلي سيف فعند ذاك يقوم ببحث واسع في مصادر الدراسات الإسلامية ليقارن بين ما ورد في حديث سيف وغير سيف ، فإذا وجد اسم الصحابي المشكوك أمره مذكورا في رواية مروية عن غير طريق سيف ـ أيضا ـ ترك البحث عنه ، وإذا لم يجد لذلك الاسم ذكرا في غير رواية سيف حكم بتفرد سيف بذكره واعتبره من مختلقاته من الصحابة أو الرواة أو البلدان ، مثال ذلك :
أنه وجد في روايات سيف أخبارا كثيرة عن أُسرة مالك التميمي العمري الاسيدي ، وهم : الصحابيان القعقاع وأخوه عاصم ابنا عمرو بن مالك ، والصحابيان الأسود بن قطبة بن مالك وابنه نافع بن الأسود ، وبقية ذويهم من أفراد هذه الأُسرة ، وشك في أمرهم فبحث أولاً عن كل خبر ورد عن كل فرد منهم في مصادر الدراسات الإسلامية وجمعها خبرا خبرا ، ثم أرجع الأخبار التي ذكرت بلا سند إلي الأخبار ذات السند فوجد أنّ جميع أخبار القعقاع ينتهي سندها إلي ثمانية وستين رواية من روايات سيف وجميع أخبار أخيه عاصم إلي نيف وأربعين رواية له وأخبار الأسود بن قطبة وابنه نافع إلي قرابة عشرين رواية له .
ثم درس أسناد أحاديث سيف عن القعقاع فوجد فيها اسم ثلاثين راويا لم يجد لهم ذكر في غير أحاديث سيف ، وقد تكرر اسم أحدهم في سند ثمانية وثلاثين من أحاديثه عن القعقاع ، والاُخري في خمسة عشر حديثا عنه والثالث في عشرة ، والرابع في ثمانية وأربعة منهم في حديثين ، والباقين في حديث واحد ، وقد يذكر في سند حديث واحد عن القعقاع اسم أكثر من راو من هؤلاء الذين اعتبرهم من مختلقات سيف من الرواة .
ووجد في أسناد حديثه عن عاصم اسم اثني عشر راويا لم يجد لهم ذكرا في غير حديث
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 230)
سيف ، يتكرر ذكر أحدهم في سند ثمانية وعشرين حديثا له ، وآخر في ستة عشر ، وهكذا وقد يرد في سند حديث واحد له اسم أكثر من راو واحد من هؤلاء الرواة المختلقين .
ووجد في إسناد حديثه عن الأسود وابنه تسعة رواة كذلك .
هذا ما كان في إسناد أحاديثه عن أفراد هذه الأُسرة ووجد سيفا يذكر عنهم أخبارا علي عهد الرسول صلياللهعليهوآله ويوم السقيفة وفي حروب الردة في الجزيرة العربية والفتوح في العراق والشام علي عهد أبي بكر ، والفتوح في الشام والعراق وإيران علي عهد عمر وعثمان ، وأخبارا في الفتن علي عهد عثمان وعلي حتي عصر معاوية .
ذكر عن أفراد هذه الأُسرة بطولات في الحروب ، وأراجيز فيها وإمارات علي ولايات وكرامات وأخبارا اُخري تفرد سيف بذكرها جميعا .
وثبت لديه تفرد سيف بن عمر بذكر جميعها بعد أنْ أرجع الأخبار المروية فيها أسماؤهم بلا سند إلي أحاديث ذات سند ، ثم وجد تلك الأحاديث رويت كلها عن طريق سيف بن عمر وحده .
ثم رجع إلي كتب السير التي ذكرت تاريخ عصر الرسول صلياللهعليهوآله ، كسيرة ابن هشام ( ت 213 و281 ه ) وعيون السير لابن سيد الناس ( ت 734 ه ) ونظائرهما فلم يجد لأفراد هذه الاُسرة ذكر فيما أوردوا من أخبار عصر الرسول صلياللهعليهوآله .
ورجع إلي كتب الحديث التي تورد الأحاديث المروية عن رسول اللّه صلياللهعليهوآله بواسطة أصحابه كمسند الطيالسي ( ت 204 ه ) ومسند أحمد ( ت 241ه ) ومسند أبي عوانة ( ت 316 ه ) وصحيحي البخاري ( ت 265 ه ) ومسلم ( ت 261 ه ) وموطأ مالك ( ت 179 ه ) وسنن ابن ماجة ( ت 273 ه ) والسجستاني ( ت 275 ه ) والترمذي ( ت 279 ه ) وكثير غيرها فلم يجد لأحدهم ذكرا في أسناد تلك الأحاديث ولا في متونها .
ورجع إلي كتب الطبقات كطبقات ابن سعد ( ت 230 ه ) الذي يذكر طبقات الصحابة والتابعين حسب نسبتهم إلي بلادهم وطبقات خليفة بن خياط ( ت 240 ه ) وسير أعلام
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 231)
النبلاء للذهبي ( ت 748 ه . ق )وغيرها فلم يجد لأحدهم ذكرا فيها .
ورجع إلي كتب معرفة الرواة كالعلل لأحمد بن حنبل والجرح والتعديل للرازي ( ت 327 ه ) وتاريخ البخاري وغيرها .
ورجع إلي كتب الأنساب كجمهرة نسب قريش للزبيري ( ت 236 ه ) وجمهرة ابن حزم ( ت 456 ه ) والأنساب للسمعاني ( ت 562 ه ) وغيرها .
ورجع إلي كتب تراجم الصحابة كالاستيعاب وأُسد الغابة والإصابة وغيرها .
ورجع إلي كتب التاريخ العام كتاريخ خليفة بن خياط والطبري ( ت 310 ه ) والتواريخ الخاصة كصفين لنصر بن مزاحم ( ت 212 ه ) وتاريخ دمشق لابن عساكر ( ت 571 ه ) وكثير غيرها .
ورجع إلي كتب الأدب كالأغاني للاصبهاني ( ت 356 ه ) والمعارف لابن قتيبة ( ت 276 ه ) والعقد الفريد لابن عبد ربه ( ت 328 ه ) إلي كثير غيرها .
وبعد كل هذه المراجعات وجد أنّ جميع الأحاديث التي وردت فيها أسماء هؤلاء الصحابة تنتهي أسانيدها إلي سيف وحده .
وبالإضافة إلي دراسة أسناد أحاديث سيف قام بدراسة متن الحديث أي بدراسة كل خبر ورد عن سيف في شأنهم علي حده ، وقارنه بين حديث غيره من الرواة في نفس الخبر وكان يجد بعد ذلك أحد اثنين :
أما ان يكون خبر سيف مختلقا كله ، بسنده ومتنه وما فيه من شعر وخطبة ومعجزة وحرب ومعاهدة ، وبطل قائد صحابي ، ومكان ذكر وقوع الحادث فيه مثل أخبار القعقاع وغيره .
أو أ نّه حرف خبر صحيحا ونسبه إلي غير صاحبه ممن اختلقهم من صحابة وتابعين أو غير ذلك من أنواع التحريف .
وبعد كل هذا الاستقصاء والتتبع وعدم العثور علي رواية واحدة مسندة عن غير طريق
الفكر الاسلامي ـ العدد 23(صفحه 232)
سيف يرد في سندها أو متنها اسم أحدهم أو خبره اعتبر هؤلاء من مختلقات سيف من الصحابة .
الفرق بين الصحابي المختلق والذي له وجود :
والفرق بين مختلقات سيف من الصحابة والصحابة الذين كان لهم وجود حقا ، أ نّه بينما ينحصر ذكر من اختلقهم سيف بأحاديث سيف فحسب ، ونجد أنّ الصحابة الذي كان لهم وجود حقا ، يذكرهم كل راو يذكر الخبر المنسوب إليهم .
مثال ذلك أنّ خالد بن الوليد لا ينحصر ذكر اسمه وأخباره براو واحد ، بل يذكره مَنْ ذكرَ في سيرة الرسول صلياللهعليهوآله خبر مهاجمة فرسان المشركين من جبل اُحد يوم اُحد كقائد لهم .
ويذكر إسلامه مَنْ ذكر إسلام من أسلم من قريش بعد صلح الحديبية .
ويذكره مَنْ ذكر خبر وقعته ببني جذيمة ، وكيف أصاب منهم كقائد لتلك الوقعة . ويذكره مَنْ ذكر خبر قتل مالك بن نويرة وما فعله خالد يوم ذاك .
ويذكره مَنْ ذكر خبر حرب المسلمين لمسيلمة الكذاب كقائد للمسلمين يوم ذاك .
ويذكره مَنْ ذكر خبر الفتوح في العراق والشام كقائد فيها وبطل .
يذكره كل مَنْ ذكر خبرا من هذه الأخبار ، وغير هذه الأخبار من أخبار خالد ويأتي ذكره في مئات الأحاديث عند عشرات الرواة .
ويأتي ذكره في جميع كتب السير والحديث والطبقات التي تورعت عن ذكر أحاديث سيف ومختلقات سيف .
نهاية المقال