حرکة التأریخ فی التصور الاسلامی ـ التفسیر الاسلامی للتأریخ (2)

العلامة السيد سامي البدري
العلامة السيد سامي البدري

(20 صفحه)
تاليف  : السيد سامي البدري
مقالة منشورة في مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 ربيع الاول سنة 1415 هـ  ـ  1994م

(صفحه 167)


التفسير الاسلامي للتأريخ :

اجاب القرآن الكريم علي الاسئلة الثلاثة المرتبطة بحركة الواقع السياسي، ومن هنا توفرت بحق في المذهب التأريخي الاسلامي الشروط العلمية التي ادعتها بعض المذاهب الاخري لنفسها ولم تكن كذلك.

فاجاب عن سؤال عوامل انهيار الامم وقياداتها السياسية بان اي تجاوز للسنن والقوانين التي تتحكم بحركة الواقع السياسي سيؤدي حتما الي انهيار ذلك الواقع وقيادته.

واجاب عن سؤال مستقبل البشرية بانها تتوحد علي اساس النظام القائم علي السنن الكونية فيما لو تقيدت به وحافظت عليه.

واجاب عن سؤال وجود النظام القائم علي السنن الكونية فعلاً، بالايجاب وانه يتمثل

الفكر الاسلامي » شماره 6 (صفحه 168)


بدين الله الذي اوحاه الي خاتم انبيائه محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله .

وقد تناول القرآن الكريم باسهاب مسألة السنن والقوانين التي تتحكم بظاهرات حركة التأريخ، ثم تناول مسألة توحد البشرية في المستقبل كما عرض بشكل تفصيلي ان السنن تلك تعمل لصالح دين الله ولصالح المؤمنين بهذا الدين.

وفيما يلي عرض للسنن والغاية والمراحل التي تشكل نظرية حركة التأريخ في التصور الاسلامي.

سنن التأريخ في التصور الاسلامي :

قال الشهيد الصدر قدس‏سره «الفكرة القرآنية عن سنن التأريخ تبلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وبألسنة متعددة، في بعض هذه الايات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، كما في قوله تعالي : «… لكل امة اجل فاذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»(1)، وقوله تعالي : «ولكل امة اجل فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»(2)، نلاحظ في الايتين الكريمتين ان الاجل اضيف الي الامة لا الي الفرد، فالمجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة له اجل وموت وحياة، وكما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الامة تكون حية ثم تموت، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل ولقانون وناموس كذلك الامم لها آجالها المضبوطة، وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل، وكذلك في قوله تعالي :« وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لا يلبثون خلافك الا قليلاً سنة من قد ارسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً»(3)، فهذه الآية تؤكد المفهوم العام وان هذه السنة سلكها الله تعالي مع الانبياء من قبل محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله وسوف تستمر.

______________________________

(1) يونس : 49.

(2) الاعراف : 34.

(3) الاسراء : 76 ، 77.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 169)


وفي آيات اخر اعطيت الفكرة عن سنن التأريخ في القرآن بشكل نماذج ومصاديق كقوله تعالي : «… ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بانفسهم …»(1)، « ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها علي قوم حتي يغيروا ما بانفسهم …»(2)، فالآيتان تقرران ان المحتوي الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة والوضع الاجتماعي هو البناء العلوي الذي لايتغير الا وفقا لتغيير القاعدة وقوله تعالي : « وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها إنا بما ارسلتم به كافرون وقالوا نحن اكثر اموالاً واولادا وما نحن بمعذبين»(3)، هذه الآية تبني علاقة قائمة بين النبوة علي مر التأريخ وموقع المترفين والمسرفين في المجتمعات، وليست ظاهرة وقعت في التأريخ صدفة، والا لما تحدثت عنها الآية بهذا الشكل المطرد « وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها» وقوله تعالي : « واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفي بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا »(4)، فهذه الآية تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وبين هلاك تجر الامة اليه جرا.

وفي مجموعة ثالثة اعطيت الفكرة بشكل حث وتأكيد علي النظر والتدبر في الحوادث التأريخية واستقرائها كقوله تعالي : « أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين امثالها»(5)، وقوله تعالي : « وكم اهلكنا من قبلهم من قرن هم اشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب او القي السمع وهو شهيد»(6).

______________________________

(1) الرعد : 11.

(2) الانفال : 53.

(3) سبأ : 34 ـ 35.

(4) الاسراء : 16، 17 .

(5) محمد : 10.

(6) ق : 36 ، 37. محاضرات السيد الشهيد الصدر قدس‏سره في تفسير التأريخ الدرس الرابع.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 170)


اما كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التأريخي في القرآن الكريم ؟ فيبين الشهيد الصدر قدس‏سره ان هناك ثلاثة اشكال تتخذها السنة التأريخية في القرآن الكريم هي :

الشكل الاول : شكل القضية الشرطية :

في هذا الشكل تتمثل السنة التأريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين او مجموعتين من الحوادث علي الساحة التأريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء وانه متي تحقق الشرط تحقق الجزاء، وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخري، فمثلاً حينمانتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء اذا تعرض الي الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلاً في مستوي معين من الضغط فحينئذ سوف يحدث الغليان، ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لاينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه وانما ينبئنا ان الجزاء لاينفك عن الشرط فمتي ماوجد الشرط وجد الجزاء، ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للانسان في حياته الاعتيادية، لان الانسان ضمن تعرفه علي هذه القوانين يصبح بامكانه ان يتصرف بالنسبة الي الجزاء، ففي كل حالة يري انه بحاجة الي الجزاء يعمِل القانون ليوفر شروط هذا القانون ومتي مارغب عنه عمل علي نفي الشرط. نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التأريخية القرآنية، ففي قوله تعالي : « ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم» بينت السنة التأريخية بلغة القضية الشرطية وكذلك في قوله تعالي : «وان لو استقاموا علي الطريقة لاسقيناهم ماءً غدقا»(1)، وقوله تعالي : « واذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»(2).

الشكل الثاني : شكل الفصلية الناجزة الوجودية المحققة :

وهذا الشكل نجد له ايضا امثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية، مثل العالم

______________________________

(1) الجن : 16.

(2) الدرس السابع من دروس التفسير الموضوعي.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 171)


الفلكي حينما يصدر حكما علميا علي ضوء قوانين مسارات الفلك بان الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني، هذا قانون علمي وقضية علمية، الا انها قضية وجودية ناجزة وليست قضية شرطية، فالقانون هنا يخبر عن وقوع الحادثة في الزمان الآتي علي اي حال، وكذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الانواء الجوية (المطر ينهمر علي المنطقة الفلانية) والسنة التأريخية التي بينت في القرآن بشكل القضية الوجودية هي الاستخلاف في قوله تعالي : «… اني جاعل في الارض خليفة …» والآية تبين ان العلاقة الاجتماعية التي يتحرك الانسان بموجبها رباعية لاثلاثية اذ بتحليل الاستخلاف نجد انه ذو اربعة اطراف لانه يفترض مستخلفا ايضا فلابد من مستخلِف ومستخلَف عليه ومستخلَف فهناك اضافة الي الانسان واخيه الانسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف اذ لااستخلاف بدون مستخلِف فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالي والمستخلَف هو الانسان واخوه الانسان اي الانسانية ككل، والمتسخلَف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها وفي مقابلها توجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الاطراف صيغة تربط بين الانسان والانسان والطبيعة، ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع(1).

الشكل الثالث :

وهو السنة التأريخية المصاغة علي شكل اتجاه طبيعي هو في حركة التأريخ لا علي صورة قانون صارم وحدّي، وفرق بين الاتجاه والقانون، اذ القانون التكويني لا يقبل التحدي من قبل الانسان، فالانسان مثلا لا يمكنه ان يجعل الماء لا يغلي اذا توفرت شروط الغليان، اما الاتجاه فهو سنة يمكننا تحديها علي شوط قصير، ولكن المتحدي يتحطم علي سنن التأريخ نفسها. واهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من

______________________________

(1) انظر الدرس الثامن من دروس التفسير الموضوعي للشهيد الصدر.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 172)


السنن هو الدين، فالدين ليس فقط تشريعات وانما هو سنة من سنن التأريخ، فقوله تعالي : « شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسي وعيسي ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر علي المشركين ماتدعوهم اليه … »(1) يبين الدين كتشريع، اما في قوله تعالي : « فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون »(2). فهنا الدين لم يعد مجرد قرار وتشريع من اعلي وانما الدين هنا فطرة الناس، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولاتبديل لخلق الله، فالدين سنة ولكنها ليست صارمة علي مستوي الغليان، سنة تقبل التحدي علي الشوط القصير، فيمكن تحدي هذه السنة بالالحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبري ولكن هذا التحدي لايكون الا علي شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالملحدين لا العقاب الاخروي، وانما العقاب هنا من سنن التأريخ نفسها التي تفرض العقاب علي كل امة تريد تبديل خلق الله سبحانه وتعالي : « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون»(3) ففي سنن الله اليوم الواحد (المهلة القصيرة) هو الف سنة.

اقول : وفيما يلي عرض لخمس سنن تأريخية عُني بها القرآن، والسنة نعتبرها اساسية في تفسير حركة التأريخ في التصور الاسلامي وهي :

1 ـ سنة الفطرة :

قال تعالي : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لايعلمون»(4).

______________________________

(1) الشوري : 13.

(2) الروم :30.

(3) سورة الحج : 47. وقوله تعالي «تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين سنة» المعارج : 4. ناظر الي يوم القيامة وهو وجه الجمع بين الآيتين كما ذكر السيد الشهيد قدس‏سره في الدرس السابع.

(4) الروم : 30.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 173)


الفطرة في اللغة : الخلقة (1)، وفطر الله الخلق يفطرهم : خلقهم وبدأهم.

وقد وردت في القرآن الكريم اربع عشرة مرة بصيغة الفعل واسم الفاعل بالمعني اللغوي كقوله تعالي : « اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما انا من المشركين»(2)، « قالوا لن نؤثرك علي ماجاءنا من البينات والذي فطرنا … »(3)يا قوم لا اسألكم عليه اجرا ان اجري الا علي الذي فطرني …»(4)، « قل اغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والارض … »(5)،« قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض»(6).

ووردت مرة واحدة بصيغة المصدر (فطرة) وذلك في قوله تعالي :« فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم …»(7)وقد جاء في احاديث اهل البيت عن النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله ان الفطرة هنا يراد بها الاسلام، كما في رواية الصدوق عن عبدالله بن سنان قال سألته عن قول الله عز وجل : فطرة الله التي فطر الناس عليها، ماتلك الفطرة ؟ قال هي الاسلام (8). وفي رواية اخري هي التوحيد، وثالثة هي الحنيفية، ورابعة معرفته انه ربهم وخامسة هي التوحيد ومحمد رسول الله وعلي امير المؤمنين (9).

وكون الفطرة هي الاسلام معني جديد استعملت اللفظة فيه، وبهذا المعني الجديد ورد قوله صلي‏الله‏عليه‏و‏آله «كل مولود يولد علي الفطرة حتي يكون ابواه يهوّدانه وينصّرانه» (10). وحينئذ

______________________________

(1) لسان العرب مادة فطر.

(2) الانعام : 79.

(3) طه : 72.

(4) هود : 51.

(5) الانعام : 14.

(6) ابراهيم : 10.

(7) الروم :30.

(8) بحار الانوار 3 : 278.

(9) المصدر السابق.

(10) سفينة البحار. الدر المنثور عن البخاري ومسلم وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن مردويه.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 174)


تكون (علي) بمعني اللام، (فكأنه قال كل مولود يولد للدين ومن اجل الدين لان الله تعالي لم يخلق من يبلغ مبلغ المكلفين الا ليعبده فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالي : « وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون»(1) والدليل علي ان (علي) يقوم مقام ماحكاه يعقوب بن السكيت بن ابي يزيد عن العرب انهم يقولون صف علي كذا وكذا حتي اعرفه بمعني صف لي، ويقولون ما اغبطك علي يريدون ما اغبطك لي، والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض وانما ساغ ان يريد بالفطرة التي هي الخلقة في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها، وقد يجري علي الشيء اسم ماله به هذا الضرب من التعلق والاختصاص وعلي هذا يتأول قوله تعالي : « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها» اراد دين الله الذي خلق الخلق له، وقوله تعالي : « لا تبديل لخلق الله» اراد به ان ماخلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف حتي يخلق قوما للطاعة وآخرين للمعصية ويجوز ان يريد بذلك الامر وان كان ظاهره الخبر فكأنه قال : (لا تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بان تعصوا وتخالفوا)(2).

وقال السيد الطباطبائي رحمه‏الله في بيان معني كون الدين فطريا : اذا تأملنا هذه الانواع الموجودة التي تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات او ميتة غير ذي حياة كسائر الانواع الطبيعية ـ علي

______________________________

(1) الذاريات : 56.

(2) بحار الانوار 3 : 281 نقلاً عن السيد المرتضي في كتابه الغرر والدرر وقد ذكر في كلامه : ان قوله صلي‏الله‏عليه‏و‏آله يولد علي الفطرة يحتمل امرين : احدهما ان تكون الفطرة ههنا الدين ويكون علي بمعني اللام، والوجه الاخر يكون المراد به الخلقة وتكون لفظ (علي) علي ظاهرها لم يرد بها غيره ويكون المعني كل مولود يولد علي الخلقة الدالة علي وحدانية الله تعالي وعبادته لانه جل وعز قد صور الخلق وخلقهم علي وجه يقضي النظر فيه معرفته والايمان به وان لم ينظروا ويعرفوا فكأنه عليه‏السلام قال : كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته علي عبادة الله وان عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 175)


مايظهر لنا ـ وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول الي مابعده ولا يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتي ينتهي الي آخرها وهو نهاية كماله.

وهذا التوجه التكويني لاستناده الي الله يسمي هداية عامة الهية وهي كما عرفت لا تضل ولا تخطي‏ء في تسيير كل نوع في مسيره التكويني وسوقه الي غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وباعمال قواه وادواته التي جهز بها لتسهيل مسيره الي غايته قال تعالي : « ربنا الذي اعطي كل شيء خلقه ثم هدي»(1)، وقال « الذي خلق فسوّي والذي قدّر فهدي والذي اخرج المرعي فجعله غثاءً أحوي»(2).

نوع الانسان غير مستثني من كلية الحكم المذكور اعني شمول الهداية العامة له، فنحن نعلم ان النطفة الانسانية من حين تشرع في التكوين متوجهة الي مرتبة انسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.

غير ان الانسان يفارق سائر الانواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في امر(3)وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لايقدر علي تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده، بمعني ان الواحد من الانسان لا تتم له حياته الانسانية وهو وحده بل يحتاج الي اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد، فيسعي الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه علي قدر زنته الاجتماعية.

______________________________

(1) طه : 50.

(2) الاعلي : 2 ـ 5.

(3) وعامة الحيوان وان كان لها شيء من الاجتماع الحيوي لكنه يسير في جنب الاجتماع لايعبأ به.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 176)


والمجتمع الانساني لايتم انعقاده ولايعمر الا باصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل ويحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.

اما الاصول العلمية فهي معرفته اجمالاً بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الانسان من حيث البداية والنهاية فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات، فالمعتقدون في الانسان أنه مادي محض ليس له من الحياة الا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادي للكائن الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم بحيث تؤديهم الي اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شيء.

والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم علي ارضاء الالهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية. والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم علي اساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت، فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الاصول الاعتقادية في حقيقة العالم والانسان الذي هو جزء من أجزائه.

واما القوانين والسنن الاجتماعية فلولا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو اكثرهم ويسلمون لها لتفرق الجمع وانحل المجتمع.

وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها : يجب ان يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز، وهي ايا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمي مصالح الاعمال ومفاسدها.

 

قد عرفت ان الانسان انما ينال ماقدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به، وهذه السعادة أمر او امور كمالية تكوينية تلحق الانسان الناقص الذي هو ايضا موجود تكويني فتجعله انسانا كاملاً في نوعه تاما في وجوده.

فهذه السنن والقوانين ـ وهي قضايا علمية اعتبارية ـ واقعة بين نقص الانسان وكماله

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 177)


متوسطة كالعبرة بين المنزلتين، وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات انسانية، وهذه الكمالات امور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الانسان الحقيقية.

فحوائج الانسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ماتطلبه النفس الانسانية بأميالها وعزائمها ويصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون ماتطلبه الاهواء النفسانية مما لايصدقه العقل فانه كمال حيواني غير انساني.

فاصول هذه السنن والقوانين يجب ان تكون الحوائج الحقيقية التي هي بحسب الواقع حوائج لابحسب تشخيص الاهواء النفسانية.

وقد عرفت ان الصنع والايجاد قد جهز كل نوع من الانواع ـ ومنها الانسان ـ من القوي والادوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج ان للجهازات التكوينية التي جهز بها الانسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنن والقوانين التي بالعمل بها يستقر الانسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة الي التغذي المعتبرة بما ان الانسان مجهز بجهاز التغذي والراجعة الي النكاح بما ان الانسان مجهز بجهاز التوالد والتناسل(1).

فالدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول الي السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، وحاشا ان يسعد الانسان أو اي شيء آخر من الخليقة بامر لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيي‏ء لخلافه كأن يسعد بترك التغذي او النكاح او ترك المعاشرة والاجتماع وقد جهز بخلافها، او يسعد بالطيران كالطير او بالحياة في قعر البحار

______________________________

(1) تفسير الميزان 16 : 195 ـ 202.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 178)


كالسمك ولم يجهز بما يوافقه(1).

فالانسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا علي الاجتماع والتعاون كان من حكمه ان يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالاعمال الاجتماعية، وعلي هذا القياس فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة(2).

وخلاصة الامر في قانون الفطرة هو امران :

الاول : ان خلقة الانسان ثابتة لاتتغير وكذلك ماتتقوم به الفطرة من خصائص وتفرزه من حاجات.

الثاني : ان هذه الفطرة لايوافقها الا دين الله واحكامه وشريعته، ففي ظله تنمو وتزكو، واذا فرض عليها دين آخر فقد تقبله لفترة محدودة ثم تلفظه اخيرا حين تتراكم الاثار السيئة في الفرد والمجتمع بسبب نقص ذلك الدين وبطلانه وبسبب ثبات الفطرة وعدم تبدلها.

2 ـ سنة (لا يصلح الناس الا امام عادل أو امام فاجر) :

روي ابو بصير عن ابي عبدالله عليه‏السلام قال : «لايصلح الناس الا امام عادل أو امام فاجر»، ان الله عز وجل يقول : « وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا» وقال : « وجعلناهم ائمة يهدون الي النار»(3).

ومن كلام لعلي عليه‏السلام حين دخل رجل المسجد فقال : لاحكم الا لله ثم قال آخر : لاحكم الا لله فقال عليه‏السلام : لاحكم الا لله « … ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون»(4) فما تدرون ما يقول هؤلاء ؟ يقولون : لا امارة، ايها الناس انه لا يصلحكم

______________________________

(1) المصدر السابق 7 : 192.

(2) المصدر السابق 10 : 85.

(3) بصائر الدرجات : 33.

(4) الروم : 60 .

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 179)


الا امير بر، أو فاجر، قالوا : هذا البر فقد عرفناه، فما بال الفاجر؟ فقال يعمل المؤمن، ويملي للفاجر، ويبلغ الله الاجل، وتأمن سبلكم وتقوم اسواقكم، ويجبي فيـئكم ويجاهد عدوكم ويؤخذ للضعيف من الشديد منكم (1).

وعن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‏السلام قال : «… ومنها انا لانجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا بقيم او رئيس لما لابد لهم منه في امر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لابد لهم منه ولاقوام لهم الا به …»(2).

ان هذه النصوص تشير الي ضرورة وجود رئيس لكل جماعة فحين يكون عادلاً اي حاكما بكتاب الله وسنة نبيه فسوف تستقيم الحياة الاجتماعية وتتفجر طاقات الانسان في اطارها. اما حين يكون ظالما فسيحيا الناس في ظله لفترة محدودة ثم ينتفض الناس عليه ويستبدلونه بحاكم آخر او تنهار تلك الجماعة اصلاً علي يد جماعة أخري وقيادة اخري من خارجها.

3 ـ سنة (لا تخلو الارض من حجة لله) :

عن عبد الله بن سليمان العامري عن ابي عبدالله عليه‏السلام قال : «مازالت الارض الا ولله فيها الحجة، يعرف الحلال والحرام، ويدعو الناس الي سبيل الله»(3).

وفي رواية عن ابي عبدالله عليه‏السلام قال : «لو كان الناس رجلين لكان احدهما الامام». وقال : «ان آخر من يموت الامام، لئلا يحتج أحد علي الله عز وجل انه تركه بغير حجة لله عليه»(4).

وعن عبد الله بن جندب قال سألت ابا الحسن عليه‏السلام عن قول الله عز وجل : « ولقد

______________________________

(1) ميزان الحكمة 1 : 137 نقلاً عن كنز العمال خ 8 / 316، ومثله في نهج البلاغة، وكتاب الغارات.

(2) بحار الانوار 3 : 32 عن عيون اخبار الرضا وعلل الشرائع.

(3) الكافي 1 : 178 باب ان الارض لاتخلو من حجة، بحار الانوار ج 23 باب الاضطرار الي الحجة.

(4) الكافي 1 : 180.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 180)


وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون» قال : امام بعد امام(1).

وعن أبان بن تغلب قال، قال : سألت ابا الحسن عليه‏السلام الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق(2).

ومن كلام لعلي عليه‏السلام : «اللهم … فانك لاتخلي ارضك من حجة علي خلقك، اما ظاهر مطاع، أو خائف مغمور ليس بمطاع لكي لاتبطل حجتك، ويضل اولياؤك بعد اذ هديتهم»(3).

4 ـ سنة (اهلاك المستكبرين واستخلاف المستضعفين) :

قال تعالي : « وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امنا يعبدونني لايشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون»(4).

قال الشيخ المفيد رحمه‏الله ان مراد الآية بالاستخلاف انما هو توريث الارض والديار والنعمة لاهل الايمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار. دون ماظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة وهي الامامة وفرض الطاعة علي الانام.

الا تري ان الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلاً لما فعله بالمؤمنين وبالانبياء قبل هذه الآية بالاستخلاف، واخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما انزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه من توريث الديار والنعم والاموال عموم المؤمنين من دون خصوصهم ومعني مابيناه من دون الامامة اليهم التي هي خلافة النبوة والامرة والسلطان، قال الله تعالي : « قال موسي لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا اوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسي ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف

______________________________

(1) اصول الكافي 1 : 415، وبصائر الدرجات : 151، امالي ابن الطوسي : 184.

(2) بحار الانوار 23 عن اكمال الدين 128.

(3) بحار الانوار 23 : 55 عن غيبة النعماني.

(4) النور : 55.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 181)


تعملون »(1) فبشرهم بصبرهم علي اذي الكافرين بميراث ارضهم والملك لديارهم من بعدهم والاستخلاف علي نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة والامامة علي سائر الامة بل اراد مابيناه.

ونظير هذا الاستخلاف من الله لعباده ومما هو في معناه قوله جل اسمه في سورة الانعام : « وربك الغني ذو الرحمة ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشأكم من ذرية قوم آخرين»(2) وليس هذا الاستخلاف من الامامة وخلافة النبوة في شيء، وانما هو ماقدمنا ذكره ووصفناه وقوله تعالي : « ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون»(3)انما اراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين وتوريثهم ماكانوا فيه النعم فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولايكفروا به كما فعل الاولون(4).

ومنه قوله تعالي : « آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم اجر كبير»(5) وقد علم كل ذي عقل ان هذا الاستخلاف مباين للامامة في معناه.

وقد وفي الله لاصحاب نبيه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد وملكهم رقاب العباد واحلهم الديار واغنمهم الاموال فقال عز من قائل : « واورثكم ارضهم وديارهم واموالهم وارضا لم تطؤوها …»(6).

______________________________

(1) الاعراف : 128 ، 129.

(2) الانعام : 133.

(3) يونس : 14.

(4) ومثله قوله تعالي «وهو الذي جعلكم خلائف الارض …» الانعام : 165. وقوله «واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض… » الاعراف : 74. وقوله تعالي:«امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض …» النمل : 62.

(5) الحديد : 7.

(6) الاحزاب : 27، رسالة الافصاح : 48 ـ 50 المنشورة ضمن كتاب عدة رسائل للشيخ المفيد.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 182)


وتقع ضمن هذه السنة سنن فرعية، كالسنة التي يشير اليها قوله تعالي : « واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»(1).

والسنة التي يشير اليها قوله تعالي : « وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لا يلبثون خلافك الا قليلاً سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً»(2).

والسنة التي يشير اليها قوله تعالي :« ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا»(3).

والسنة التي يشير اليها قوله تعالي : « ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها علي قوم حتي يغيروا ما بانفسهم …»(4).

5 ـ سنة شكر النعمة والاستمرار او كفر النعمة والبوار :

قال تعالي :« ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها علي قوم حتي يغيروا ما بأنفسهم وان الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فاهلكناهم بذنوبهم واغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين»(5).

وقال تعالي : « واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد»(6).

وقال تعالي : « ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون»(7)وقال تعالي : «… عسي ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون »(8).

______________________________

(1) الاسراء : 16.

(2) الاسراء : 77 ، 78.

(3) الفتح : 22.

(4) الانفال : 53.

(5) الانفال : 53 ، 54.

(6) ابراهيم : 7.

(7) يونس : 14.

(8) الاعراف : 129.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 183)


وقال تعالي: « وقضينا الي بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فاذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولاً ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم بأموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اسأتم فلها فاذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسي ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا»(1).

وقال تعالي : « وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم علي اعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين»(2).

وقال تعالي : « اولم يهد للذين يرثون الارض من بعد اهلها ان لو نشاء اصبناهم بذنوبهم ونطبع علي قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القري نقص عليك من انبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله علي قلوب الكافرين وما وجدنا لاكثرهم من عهد وان وجدنا اكثرهم لفاسقين»(3).

غاية حركة التأريخ :

توجد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص كثيرة جدا تتناول المستقبل الذي سيكون عليه الواقع البشري، وقد جاءت مرة بلسان الحديث عن الهدف الاعلي للبشرية، واخري بلسان الحديث عن الانتصار الحتمي لخط انبياء الله وظهور دينه علي الدين كله، وثالثة بلسان الحديث عن الامام المهدي عجل الله تعالي فرجه ولي الله المذخور لاحداث المرحلة الاخيرة في التأريخ علي الارض.

قال الله تعالي : « وماخلقت الجن والانس الا ليعبدون )(4) والآية تدل علي ان

______________________________

(1) الاسراء : 4 ـ 8.

(2) آل عمران : 144.

(3) الاعراف : 100 ـ 103.

(4) الذاريات : 56 .

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 184)


الهدف الاساسي من خلق البشرية هو عبادتهم لله الخالق القدير، وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالي : «… ليعبدون»مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع اداة الاستثناء (الا) بعد النفي، والعبادة بمعناها العميق تقتضي ايجاد المجتمع المعصوم برأيه العام بل المعصوم بكل افراده، ولهذا الغرض لابد ان يشاء الله تعالي ايجاد كل مايحققه والحيلولة دون كل ما يحول عنه شأن كل غرض الهي مهم (1).

وقال تعالي : « هو الذي ارسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون »(2)، وهي تعطينا بوضوح الغاية والغرض الرئيس من ارسال رسول الاسلام صلي‏الله‏عليه‏و‏آله بالهدي ودين الحق، يدلنا علي ذلك قوله تعالي : «… ليظهره …» حيث دلت لام التعليل علي الغاية والسبب في انزال شريعة الاسلام وهو ان يظهره اي يجعله منتصرا ومسيطرا علي غيره من الاديان والعقائد كلها، وذلك لايكون الا بسيطرة الحق علي العالم كله (3).

وقال تعالي : « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون »(4).

وقال تعالي : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون»(5).

وقال تعالي : « انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد »(6).

 

______________________________

(1) تأريخ الغيبة الكبري. السيد محمد الصدر : 236.

(2) التوبة : 33.

(3) تأريخ الغيبة الكبري : 238.

(4) الانبياء : 105.

(5) الصافات : 171 ـ 173.

(6) المؤمن : 51.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 185)


المراحل العامة لحركة التأريخ

يستفاد من ظواهر القرآن الكريم ان لحركة التأريخ البشري ثلاث مراحل هي :

الاولي : مرحلة الوحدة الفطرية وهي مرحلة وجود آدم وحواء في الجنة.

الثانية : مرحلة الاختلاف وبعثة الانبياء بدءا من آدم.

الثالثة : مرحلة المجتمع الصالح الوارث للارض كلها علي يد الامام المهدي عجل الله تعالي فرجه.

يشير الي المرحلة الاولي والثانية قوله تعالي : « كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الّا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدي من يشاء الي صراط مستقيم »(1).

وقوله تعالي : « وماكان الناس الّا امة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون »(2).

ويشير الي المرحلة الثالثة قوله تعالي : « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون»(3).

تستوعب مرحلة الاختلاف كل تأريخ البشرية وكل افراد بني الانسان. يتعرض فيها كل انسان الي الابتلاء وهو الاطار العام الذي أطرّ به الحياة الدنيا كما في قوله تعالي : « الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملاً … »(4).

« … ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم … »(5).

______________________________

(1) البقرة : 213.

(2) يونس : 19.

(3) الانبياء : 105.

(4) الملك : 2.

(5) المائدة : 48.

مجلة الفكر الاسلامي العدد  6 (صفحه 186)


« … ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما اتاكم …»(1).

« ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولايزالون مختلفين الّا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس اجمعين»(2).

اما المرحلة الاولي والثانية فقد خرجتا عن اطار الابتلاء والاختلاف وذلك لان المرحلة الاولي لم تكن مرحلة تكليف وابتلاء اصلاً، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة انتصار الوجبة الاخيرة من الممحصين من عباد الله علي يد بقية اصفيائه، وانما جعلت مرحلة لامتيازها عن غيرها من عهود النصر الالهي باتصالها بيوم القيامة واوله الحشر الاصغر (الرجعة)(3)، حيث يرجع من محض الايمان محضا ليزيد الله تعالي من سروره برؤيته عاقبة المتقين في الدنيا ويرجع من محض الكفر محضا ليزيد الله من حزنه وحسرته بذلك ايضا.

وبامتيازها ايضا بعدم ظهور ولادات جديدة للمؤمنين لان ذلك يستلزم تكرار حالة الاختلاف(4)، اذ لا تبديل لخلق الله، والاختلاف يستلزم تحريف الدين ومن ثم وجود وصي للنبي الخاتم أو بعثة نبي جديد وكلاهما لم يشأه الله تعالي إذ ختم النبوة بمحمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله واذ ختم أوصياء النبي الخاتم بالامام المهدي عجل الله تعالي فرجه.

 

______________________________

(1) الانعام : 165.

(2) هود : 118 ـ 119.

(3) كما في روايات اهل البيت عليهم‏السلام تفسيرا لقوله تعالي «واذا وقع القول عليهم اخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم ان الناس كانوا باياتنا لا يوقنون * ويوم نحشر من كل امة فوجا ممن يكذب باياتنا فهم يوزعون»النمل : 82، 83.

(4) قبالة هذا الرأي توجد روايات تفيد ان الانحراف يقع بعد المهدي عجل الله تعالي فرجه وان الساعة تقوم علي اشرار الناس.

نهاية المقالة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.